التاريخ: شباط ١٣, ٢٠١١
المصدر: جريدة الحياة
 
الحدث المصري منظوراً إليه من زاوية الانقسام اللبناني - حازم الأمين

لا تنفصل قراءة الحدث المصري لبنانياً عن صورة الانقسام الداخلي المرتسم بين الطوائف والأحلاف التي انعقدت في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري في شباط من العام 2005. والحدث المصري، إذ ارتسم لبنانياً على هذا النحو، حمل من الدلالات ما لم يحملها الحدث في مصر، فبينما شعرت «14 آذار» بأن نظاماً حليفاً قد هوى، اندفعت «8 آذار» بصفتها صانعة للحدث المصري، ومحركة له. وبينما لم تسأل «14 آذار» نفسها يوماً عن المضمون الأخلاقي لحقيقة تحالفها مع نظام حسني مبارك، لم تشعر «8 آذار» أنها معنية بالإجابة عن أسئلة أخلاقية موازية، ليس أقلها صدورها عن تحالف إقليمي يستبطن قدراً من الانحطاط يزيد عن ذلك الذي غفلت عنه «14 آذار».


نعم، ومن دون مواربة، لم يُخلف خلع الرئيس حسني مبارك ارتياحاً كبيراً في بيئة «14 آذار»، وفي نخبها أيضاً، ذاك أن الرئيس المصري المخلوع كان هو ونظامه جزءاً من تحالف إقليمي لطالما وقف إلى جانب «14 آذار» في مواجهة «8 آذار» المدعومة من سورية وإيران الخصمين اللدودين لمبارك. ولطالما كان الأخير ملاذاً لزعماء «الجماعة الاستقلالية اللبنانية»، مستقبلاً لهم ومرسلاً النصائح والرسائل، وكان وزير خارجيته من أشرس مساجلي خصومها على المنابر الدولية، مع ما حملت تصريحاته في هذا السياق من إشارات توحي بضعف الصلة بالملف اللبناني، وانعدام التأثير المباشر فيه.


و»14 آذار» كجماعة سياسية وطائفية لبنانية لم تشعر يوماً بواجب مراجعة حقيقة ابتعاد شعاراتها الداخلية عن الجوهر الدلالي لتحالفها مع نظام لا يقيم وزناً في بلده للقيم التي تدعو إليها في لبنان. فالاكتراث لطبيعة نظام في الخارج لم يكن يوماً هماً داخلياً لبنانياً، ومرد ذلك إلى انقطاع السياسة أو ما يوازيها، في لبنان وفي الشرق عموماً، عن تقاليد حديثة تساعد على الربط بين الدلالات. مصر حسني مبارك «معنا»، ولا ينبغي في حينها مساءلتها عن أي شيء آخر، فيما إيران أو سورية «ضدنا» وعلينا مساءلتهم عن كل شيء. وحين تحرك الشارع الإيراني في العام 2009 بما يشبه حركة احتجاج على أحمدي نجاد، كان علينا أن نتداعى وأن نُصدر بياناً تضامنياً مع المحتجين الإيرانيين، نُعلمهم فيه بأننا إلى جانبهم، فيما كنا نحن أنفسنا في الحدث المصري أقل حماسة وانتظاراً.
هذا الكلام لا بد أن يُقال لعلاج الخيبة الناجمة عن سقوط النظام في مصر، لكن أيضاً يجب أن يُقال في سياق مراجعة خيبات داخلية، ليس أقلها تبديدنا على نحو مأسوي «انتفاضتنا» في 14 آذار (مارس) من العام 2005. إذ أن لانقطاعنا عن تقليد حديث في السياسة أفضى بنا إلى أحضان حسني مبارك، دوراً حاسماً في ما نحن متخبطون به اليوم.


هذا على مستوى النخب، أما في ما يتعلق بالقاعدة الطائفية للانقسام اللبناني فإن «14 آذار» وبعد أيام قليلة من تظاهرتها الأولى في العام 2005، ارتدت إلى جماعة طائفية مشكلة من غلبة سنية واضحة مع عمق مسيحي حازت أكثر من نصفه بقليل في سياق منافسة حزب الله على المسيحيين في لبنان. وإذا كان لنا أن نقيس الحدث المصري وفق المعايير الطائفية اللبنانية، فسنخرج بنتيجة غير واضحة في ما يخص الطائفة السنية في لبنان، إذ أن الأخيرة لطالما ارتبطت بمصر بصفتها عمقاً لثقافة الأكثرية في العالم العربي، وحدث من نوع خلع رئيس الجمهورية فيها، يتصل من دون شك بوجدان هذه الجماعة على نحو حميم، فيما يمكن للجماعات اللبنانية الأخرى أن تنقسم حوله بصفته حدثاً أو مشهداً خارجها. ولهذا يمكن لمراقب أن يُعاين تنازع السنة اللبنانيين حيال الحدث المصري بين ترقب الارتدادات المباشرة على وضعهم في لبنان، وبين الحماسة لحدث إيجابي يجرى في قلب الوجدان الجماعي. وينتج من ذلك انتظار ودهشة وخوف.


النصف الثاني من المشهد اللبناني منظوراً إليه عبر مرآة الحدث المصري، يزيد عن النصف الأول مفارقة. فقد صُور الحدث المصري في صحافة حزب الله اللبنانية بصفته ثورة ضد كامب ديفيد وضد نظامها، وانبعاث جديد لمصر عبد الناصر. لم يكن مهماً بالنسبة لهذه الصحافة أن الاحتجاج في شوارع القاهرة لا أثر فيه لشعارات تساعد على هذا الاعتقاد، وأن تحرك الشباب في مصر غير مستمد على الإطلاق من ضائقة موقع مصر الإقليمي، إنما أسبابه داخلية جداً، وتتقدم فيها شعارات الحرية والديموقراطية ومكافحة الفساد أي شعارات أخرى. فكان أن أجرت «جماعة الممانعة اللبنانية» عملية إزاحة غريبة لمضمون «الثورة المصرية»، فاستبدل المضمون الداخلي الذي ينسحب على حال الأنظمة الداعمة لـ «ثقافة الممانعة» واستعيض عنه بالصراع العربي - الإسرائيلي، ذلك الأمر الذي عُلقت فيه كل الخيبات الداخلية في بلادنا.


و»ثقافة الممانعة» أغفلت في سياق ترويجها للحدث المصري على انه انتفاضة على خيار كامب ديفيد، أمراً آخر تقتضي الإشارة إليه. فنظام الرئيس حسني مبارك هو الابن الشرعي لانقلاب العام 1952، الذي نفذته مجموعة الضباط الأحرار بقيادة محمد نجيب الذي نحاه لاحقاً الرئيس جمال عبد الناصر. فمبارك وصل إلى السلطة في مصر وفق الآلية التي كرسها نظام عبد الناصر. توفي عبد الناصر وخلفه مساعده من مجموعة الضباط الأحرار أنور السادات، وقُتل السادات فخلفه مساعده محمد حسني مبارك. وإغفال هذه الحقيقة هو جزء من ثقافة إغفال تعسفية كاملة تمارسها جماعات الممانعة كل يوم في سياق ترويجها لأولوية الصراع، وعاد الحدث المصري اليوم ليذكرنا بها، فهي أغفلت على رغم تمجيدها النصر واختراعها أوهامه في كل المناسبات أن عبد الناصر خسر حربين متتاليتين، وكان في طريقه إلى خيار آخر عندما وافته المنية، وأغفلت أيضاً أن السادات انتصر في حرب العام 1973 وذهب إلى السلام وبيده ورقة سيناء التي خسرها عبد الناصر.


لا بأس بذلك، فعملية الإزاحة التي مورست بحق الحدث المصري تُلبي شرطاً ضرورياً لا ينعقد خطاب الممانعة من دونه، فهي تُعفي من مساءلة أنظمة ليس الفساد وحده شرط بقائها وصمودها، إنما أيضاً معدلات عالية من العنف والاضطهاد لم ترق إليها يوماً ممارسات نظام مبارك في مصر.
لكن ولحسن حظ «الممانعين» فإن أنظمتهم مرشحة للصمود أكثر، إذ أنها تمكنت من تحقيق شرطين لا يبدو أن دومينو تهاوي الأنظمة قد يقوى عليهما، وهما حماية الفساد والتعسف بآلة النظام العسكرية، وكل ذلك تحت سقف الصراع مع إسرائيل.