التاريخ: آذار ٢٥, ٢٠١٣
المصدر: جريدة الحياة
عن فعلة حلق لحية الشيخ في وسط بيروت - حازم الامين
كم بدا ساذجاً وقليل الخيال، بل عديمه، قول وزير الداخلية اللبناني مروان شربل إن المعتدين على الشيوخ السنّة الأربعة في بيروت مجرد مدمني مخدرات. فهؤلاء، وفق ما يُفهم من الوزير، جاؤوا من خارج النقاء اللبناني، من لوثة المخدر، وأقدموا على فعلتهم.

والحال أن إحالة فعلة «لبنانية» من نوع تلك التي أتى عليها شبان من منطقة «الخندق الغميق» في وسط بيروت، إلى المخدر تنطوي على تجاهل مباشر للحقيقة اللبنانية، لا بل إن المخدر كان ليمنع ما جرى، إذا ما اعتقدنا أنه يُفضي إلى حرف الواقع وتبديده. فالفعلة الطائفية الجوهرية المتمثلة في حلق لحية شيخ من الطائفة الأخرى، يعوزها مقدار من الوعي والتصميم لا يمكن المخدر أن يصمد في ظلهما. وفي لبنان اليوم مقدار كاف من هذا التصميم.

ثم إن الطائفية هي ذروة الوعي اللبناني و «طربونته»، وهي إذ تصطفي شبان الأزقة لترجمة «وعيها» أفعالاً من ذلك النوع الذي أقدم عليه الشبان في «الخندق الغميق»، فهي قبل ذلك كانت اختبرت نفسها في وعي السياسيين، واكتشفت كم أطربتهم موسيقاها. فالسياسي اللبناني عبقري في الطائفية، يجيدها على نحو لا يقوى عليه فتية الأحياء وزعرانها. يعرف تماماً أين تُقيم وكيف تتحرك، ومتى يستثمر فيها.

وفعلة حلق لحية شيخ من الطائفة الأخرى تفوق في رمزيتها أي فعل طائفي آخر بما في ذلك القتل، ذاك أن المقدمين عليها توخوا بفعلتهم المس بوجدان خصومهم، على ما ترمز لحية الشيخ في لعبة الوجدانات. وهذا الفعل الواعي هو من نسل أفعال ليست عابرة، فهو يُؤسس للثأر ويتسرب إلى الوعي الانتقامي غير الرحمي. فالمعني بالإهانة هنا هو جماعة كاملة، والوجدان المهتز هو وجدان جماعة، لا وجدان الشيخ المُصاب والرقيد الفراش.

ثم إن حلق اللحية في اللحظة اللبنانية هذه هو رسالة شديدة الخصوصية، فثمة آلة إعلامية هائلة تقول إن الطائفة السنّية في لبنان نبتت لها لحية، وهي في طريقها لأن تصبح «طائفة الجهاد»، واخترعت أيقونة لهذه المقولة هي الشيخ الصيداوي أحمد الأسير، والأسير تتقدم لحيته الطويلة حضورَه، وما قيام الفتية «المخدرين» في الخندق الغميق بفعلتهم إلا نوع من الاستعاضة عن حلق لحية الشيخ الصيداوي بحلق لحية شيخ عابر من منطقتهم. نوع من حلق رمزي للحية الأسير. هم قالوا ذلك أصلاً، ففي الساعات الأولى التي أعقبت الحادث تسرّب خبر عن أن الشبان اعتقدوا أن الشيخ العابر من منطقتهم هو «من جماعة أحمد الأسير».

والآلة الإعلامية التي أنتجت الأسير، إنما فعلت ذلك لحاجتها إلى أن تحلق لحية أيقونتها. فالطوائف خبيثة، وتستشعر الحاجة إلى إنتاج الشبيه، ثم إلى تحطيمه لاحقاً.

لكن الأسيـــر «غير السلفي»، وغير المتين الصـــــلة بالمشيخة، والصادح بـ «ظلامة أهل السنّة»، لم يُحدِث اختراقاً يُذكر في الشـــارع، على عكس ما يحلو لصحافيي «حزب الله» أن يُشيروا دائــماً. فهم جعلوا الشيخ الصيداوي نجمهم الذي يُلاحقونه من صيدا إلى فاريا، وتحف برواياتهم عنه توقعاتهم بأن يُطيح بسعد الحريري. وهذا ما أسس لفعلة شبان «الخندق الغميق».

والحال أن تمني «حزب الله» المعبّر عنه في كلام مراسلي الحزب في الإعلام اللبناني، أي أن يرث الأسير الحريري، وأن يصبح صورة الطائفة السنّية، لا يمكن أن يتحقق لأسباب كثيرة، أولها أن الأسير في توسله لغة طائفية موغلة في انكشافها، إنما يوظف في خصومة الشيعة، وهو بهذا المعنى «يبيع ماء في حارة السقايين». ذاك أن «تيار المستقبل» سبقه إلى خصومة «حزب الله»، وخصومة الحزب تستنفد خصومة الشيعة من دون أن تبتذلها على نحو ما يفعل الأسير. والشرائح المدينية السنّية أميَل في خصومتها «حزب الله» ومجتمعه إلى التورية. فالتعبير الطائفي الفظ والنزق لا ينسجم مع ميلها إلى السكينة، بالتالي لا بد من مواربته بما يتفق مع ما هو مقبول.

ثم إن «جمهور الأسير» الذي يُنقّله الشيخ في الباصين الشهيرين من فاريا إلى الوسط التجاري في بيروت، ويحُط به في صيدا قاطعاً الطريق على استرزاق تُجارها من العابرين الشيعة الجنوبيين، صارت حدوده معروفة على رغم الزغاريد التي يُطلقها إعلام الحزب والإعلام الممول من الحزب ما إن يُطل الشيخ الصيداوي بوجهه ولحيته.

وإذا كان «حزب الله» فشل في إنتاج نماذج ركيكة عنه في بيروت وصيدا، إلا أن فشله كان أقل في شمال لبنان. فالمشاعر التي خلّفها حلق لحية الشيخ في بيروت يستقبلها «أهل السنّة» هناك ويستدخلونها في توترهم على نحو أشد وضوحاً وفعالية، وينقلها فتية باب التبانة إلى محاور القتال مع بعل محسن، فيما الجماعة العلوية في تلك المنطقة لا تكترث بدورها للخطر المحدق بها نتيجة زجها في أتون صراع طائفي لن تقوى على الصمود فيه.

إذاً، الطائفــــية فــــي صيغتهــــا اللبنانية انتقلت من طور التوتـــر مع المحافظة على توازناتها الهشة إلى الاستعداد للانهيار الكبير، ويجري ذلك على وقع التبدلات في الأوضاع الميدانية السورية: فكلما اهتز وضع النظام هناك ولاحت مؤشرات إلى نقلة في غير مصلحته، تقدم الوضع الطائفي في لبنان خطوة مـــن الانفجار. ولا يبدو أن أحداً يملك مناعة للوقوف في وجه هذا القدر الذي لا بد منه. فالمسيحيون الذين من المفترض أنهم أبعد خطوة عن هذا الانقسام، منغمسون فيه، وها هو ميشال عون يقول إنه مؤمن بـ «الانتصار الحتمي للأسد»، فيما تُخرج الجماعة من حرجها قانوناً للانتخابات يكشف مدى رغبتها في أن تُطلق لحيتها في مقابل اللحى الكثيفة المحاصَرة بها.

الطائفية جهاز عبقري يا معالي الوزير، والقول إن المخدرات هي ما دفع الشبان إلى فعلتهم، فيه تجاوز على الطائفية وعلى المخدر في آن، فلكل من الأمرين وظيفة لا تنسجم مع الأخرى. في الأولى ذروة الوعي وذروة الخبث، وفي الثانية خروج من النفس الطائفية.