طالما استخدمت جماعة الإخوان المسلمين آلية المزايدة على الوطنية المصرية، باعتبارها تجارة سهلة ورابحة. كانت تجارة سهلة لأن الأعداء كانوا جاهزين ومحددين: أوروبا الصليبية، النازعة إلى الغزو الثقافي بديلاً من الغزو العسكري، وإسرائيل الصهيونية المحتلة، وأميركا ربيبة أوروبا وحامية إسرائيل. وهي تجارة رابحة لأن العتاد المطلوب للمواجهة كان بسيطاً: حفنة شعارات من قبيل الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا، وشهداء رايحين على القدس بالملايين. وعلى قدر سهولتها وشيوعها، بات المصريون يتصورون أن الجماعة، لفرط حمأتها على الوطن، ستهجم على جل أعدائه بمجرد أن تتمكن من صولجان الحكم، ولذا فقد خشي كثيرون أن يقوم مرسي بعد تنصيبه رئيساً بقطع العلاقة مع الولايات المتحدة، وإسقاط اتفاقية السلام مع إسرائيل، وشن الحرب ضد الجميع. كان طبيعياً، عندما قاربوا مشاكل الحكم ورأوا المشهد من داخله، بعيداً من المزايدات المعروفة لدى كل معارضة سياسية، والمناورات المألوفة لدى أي جماعة محجوبة عن الشرعية، أن يكتشفوا حقيقة مهمة وهي أن تأكيد الذات الوطنية في مواجهة الآخرين لا يتوقف فقط على همة حزب أو شجاعة رئيس، بل على تكتل الأوطان ويقظة الدول، وقدرة الأمم على الإبداع العلمي والتميز التكنولوجي والإنجاز الاقتصادي كمسالك إلى التقدم الحضاري والتفوق العسكري. وهي حقيقة تزداد أهميتها عندما يكون الخصم دولة عدوانية بحكم النشأة السياسية والتكوين التاريخي، أو يكون راعيها قطبٌ عالميٌ كبيرٌ، من طراز فريد، يملك جل عوامل القوة، وينسجها معاً في بناء شبكي، يذهب بسطوته ونفوذه إلى كل مكان في العالم مهما كان قصياً. وفي الحقيقة، كان من الممكن موافقتهم على كثير مما اكتشفوه لو أنه كان اكتشافاً جديداً حقاً ولم يكن إدراكاً قديماً تم استبطانه وتأجيل إعلانه بغرض المزايدة عليه. فالوفاء للوطنية المصرية لا يعني ممارسة شوفينية قومية ضد باقي الأمم والشعوب، أو الدخول في حرب ضد الجميع. فهذه تصورات عدمية لا وطنية، بسيطة إلى حد السذاجة، في ظل تعددية عوامل القوة، وتباين أهداف الأمم، وتشابك مستويات الواقع إلى درجة التعقيد. ولكن ما لا يمكن موافقهم عليه، هو أن تتحول العلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة من دعاية سلبية تمكنوا بها من وصم شرعية النظام السابق عليهم، إلى رافعة لتكريس شرعيتهم يتم الاستقواء بها على مواطنيهم أنفسهم. فإذا كان من الخطأ بناء شرعية على مجرد علاقة عداء مع أي طرف، فإن الخطأ الأكبر هو أن تبنى تلك الشرعية على مجرد صداقة مع هذا الطرف نفسه، فيما تتم إدارة الظهر للطرف الأصيل القادر وحده على منح تلك الشرعية، أي الشعب المصري، وهو الأمر الذى تبدى بمجرد أن وطأت الجماعة سدة الحكم، سواء في تلك الرسالة التي أرسلها الرئيس السابق إلى الرئيس الإسرائيلي حاملة ودّاً مبالغاً فيه، ونبرة عاطفية عالية لا تتناسب أصلاً مع العلاقات الديبلوماسية العادية وليس فقط مع دولة طالما اعتبرتها الجماعة عدوها الأول. أو في الوساطة المصرية بين حماس وإسرائيل عندما قدم مرسي لإسرائيل ضمانات دأب مبارك على رفضها في شكل فاجأ إسرائيل نفسها إلى حد اعتبرت معه أن مرسي صار كنزها الاستراتيجي الجديد، بعد مبارك، كنزها الاستراتيجي القديم. أو في التعويل على الولايات المتحدة كعصا تم إشهارها في وجه المصريين الرافضين حكمه منذ صدور الإعلان الدستوري في 22 تشرين الثاني (نوفمبر)، فهي الداعم المعنوي، والظهير الديبلوماسي الذي يلتقي قيادات الجماعة قبل وبعد كل القرارات الشاذة والأزمات الحادة مع التيار المدني والقوى الوطنية. وعندما هبت عاصفة 30 حزيران (يونيو)، صارت الولايات المتحدة «الإمبريالية» مع أوروبا «الصليبية»، هما قوة الصد المأمولة في مواجهة الطوفان الشعبي، فأخذت الجماعة تستدعيهما للتدخل ضد الجيش وتستعديهما على الحكم الجديد بكل السبل الملتوية وكل أشكال التزييف الممكنة، فلم تتوقف الكتائب الإلكترونية للجماعة عن توصيل رسائلها إلى الغرب، وعن بث صورها إليه صادقة كانت أو كاذبة، بل وترويج إشاعات مربكة حول تحرك سفن أميركية نحو السواحل المصرية بغرض الضغط على مصر لمصلحة عودة الرئيس المعزول. ليس المهم هنا أن تلك الإشاعات كانت كاذبة تماماً، بل التهليل لها من جانب جماعة طالما اعتبرت نفسها الأكثر غيرة على الوطنية المصرية، ورفضاً لمحاولات التدخل الأجنبي في شؤونها، والتي كثيراً ما اتهمت الرئيس السابق بأنه دفع مصر إلى الركوع أمام الغرب والتخلي عن قيادة المنطقة لمصلحة إسرائيل. فهل يعني ذلك أن الجماعة كانت ستحارب إلى جانب الأميركيين حال ارتكبوا، مثلاً، حماقة كبرى ضد مصر؟ ولأن الدول لا تتدخل إلا في سبيل حماية حلفائها وعملائها، فهل يعني ذلك أن الجماعة صارت عميلاً للشيطان الأميركي؟ لقد نادى كثيرون بعدم إقصاء الجماعة من المشهد السياسي، ومن بينهم كاتب هذه السطور، وما زلت أصر على موقفي خروجاً من دائرة انتقام مغلقة وشريرة، لكن يبدو لي أن الجماعة تصر على إقصاء نفسها، لا زهداً في السلطة أو تسامياً على السياسة، بل رغبةً في تعطيل المسيرة وإرباك المشهد، لأنها تعلم، قبل غيرها، أن مصر الآن، سواء بفعل كم المعونات العربية المتدفق، أو بفعل حالة النشوة لدى المصريين، لديها امكانات تحرك كبير إلى الأمام يقودها سريعاً نحو الأفضل، ما سيدفع الجماهير إلى المقارنة بين عام الرمادة الإخواني وبين المستقبل القريب، وهو ما يعرض الجماعة للحظة انكشاف نادرة، تجعل من كل عملية انتخابية مقبلة امتحاناً صعباً لها. لا تريد الجماعة إذاً العودة إلى السياسة من بابها الأمامي الذي يقتضي الاعتراف بما حدث في 30 حزيران (يونيو)، واحترام «خريطة الطريق» المنبثقة منه، وبالأخطاء التي ارتكبتها في حق الوطن ومحاولة تداركها في كل تجربة مقيلة تتمكن فيها من الفوز بالسلطة أو المشاركة فيها، بل تراهن على العودة من الباب الخلفي، من خلال تأزيم الموقف وسكب المزيد من دماء ضحاياها المغرر بهم، حتى تغطي مشاهد الدماء على ساحات السياسة، وتعمي عمليات الدفن على محاولات البناء، وتعلو شواهد القبور على قبة البرلمان، فتتيه ملامح المستقبل في أنقاض العنف، ويحل اليأس في القلوب بديلاً من الأمل، وتلك مشاعر وأحوال من يريدون الحياة على جثث أوطانهم انتقاماً من أهلها، لا من يعشقونها، أو يرغبون حقاً في التضحية من أجلها. * كاتب مصري
|