التاريخ: شباط ٢٦, ٢٠١٤
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الدعم الدستوري والمدني للتحوّلات العربية اليوم - انطوان مسره
كيف نستعيد ذاكرة وثيقة الوفاق الوطني - الطائف لاستخلاص العبر وتجنب آلية التكرار؟ وما العمل في سبيل ادارة التحول الديموقراطي وصوغ الدساتير في المجتمعات العربية في اطار المستجدات وبروز الشارع العربي؟
 
وفرت الندوة التي عقدتها المؤسسة اللبنانية للسلم الاهلي الدائم ومؤسسة كونراد اديناور(¶) حول موضوع: "صياغة الدساتير في التحولات الديمقراطية: الخبرة العربية والدولية من منظور مقارن" مدخلاً منهجياً وخطة عمل.

الموضوع مطروح اليوم بحدة لانه مرتبط بالسلم الاهلي في مجتمعات مُهددة بانقسامات داخلية وتدخلات خارجية (عصام سليمان). وهو مطروح لانه يمكن تجنب المخاطر في الاستفادة من الخبرة اللبنانية المتعددة الجانب والخبرات المقارنة.

مشاركة مؤسسة كونراد اديناور في الورشة ذات مغزى لان "كونراد اديناور هو من اهم الشخصيات التي اعادت ترميم المانيا بعد الحرب واعادتها الى الديموقراطية" (انطوان سيف). ويتخذ الموضوع أهمية قصوى لأن الاوضاع تتصف بدرجة كبيرة من التعقيد والضبابية وتتأثر بعوامل داخلية وخارجية. تتصف الحالات العربية بمعطيات متشابهة في بعض الشؤون ومتمايزة حيث "كل حالة عربية هي قائمة بذاتها".

انطلاقًا من عشرة عناصر عُرضت خلال الندوة حول "الشروط الملائمة وغير الملائمة في التحول الديموقراطي وصياغة الدساتير"، يمكن تبيان عناصر القوة والضعف في التحول الديموقراطي. يستخلص من الاوراق والمناقشات ستة توجهات رئيسة.

1 - ذاكرة الطائف: يستحيل دراسة وثيقة الوفاق الوطني - الطائف دون استعادة ذاكرتها المليئة بالعبر. سبقت هذه الوثيقة حوارات وطنية لا تحصى ونقاشات ومداولات مضنية. ليس لبنان اليوم تالياً في مرحلة انتقالية تأسيسية وقد انجز بناؤه على مستوى الصياغة الدستورية.

عُرضت شهادات حول صياغة الطائف خلف الكواليس، مما يُساهم في حسن تطبيق الاحكام (بهيج طباره). يضاف الى ذلك كثافة الوثائق المنشورة حول جذور الدستور اللبناني سنة 1926 وجذور وثيقة الوفاق الوطني - الطائف.

ما يرد في مقدمة الدستور اللبناني هو ثمرة سجالات واختبار حول نهائية الوطن اللبناني. يقتضي تاليًا اعتماد قول الرئيس رشيد كرامي سنة 1976 عندما تعالت اصوات حول موت ميثاق 1943: "لنعمل لما يغنيه ولا يلغيه". تكمن الخطورة اليوم في استراتيجية خارجية تسعى لإعادة لبنان الى مرحلة تأسيسية استنفدت وانجزت. الحاجة تاليًا الى "عدم التلطي وراء اصابعنا ووضع المجلس النيابي امام مسؤولياته" (ادمون رزق) وان "نحتاط لمختلف حالات الفراغ" (داود الصايغ).

وصفت اعادة لبنان المفتعلة الى مرحلة تأسيسية بأنها "ضرب من المؤامرة لا يستطيع احد التحكم بنتائجها وهي مشروع حرب لا يستطيع احد ايقافها وستؤدي الى فيديرالية لبنان والقضاء على لبنان الموحد، بدلاً من العودة الى الوفاق الوطني وتوفير نموذج ناجح للبنان" (عباس الحلبي).

تثبت المعطيات المستعادة الى الذاكرة ان "المطلوب اليوم هو ان يكون اللبنانيون في المبادرة وليس في التنظير وليس المطلوب تعديل اي شيء، بل رجال دولة في الحكم في احلى وطن واستعادة دينامية ثورة الارز ومقاومة الذين يتربصون لوضع اليد على لبنان والعودة الى الميثاق والدستور" (ادمون رزق). افضل الدساتير هو مجرد وعاء ناظم يتطلب من القيِّمين على الحكم التقيد بقواعد اللعبة "ضمن الرقعة الجغرافية الوطنية وعدم اللعب خارجها: المشكلة الحالية في اللاعبين" (انطوان حداد).

2 - المبادئ الحقوقية الاساسية والتأصيل: يجب ان تتضمن الدساتير، بخاصة في مقدماتها، مبادئ حقوقية اساسية اجمعت عليها الشرعات الدولية لحقوق الانسان واستقر عليها الضمير العالمي. قد تختلف آليات تطبيق المبادئ العالمية حسب المجتمعات. يتصف التحول في اسبانيا بأنه كان اصلاحيًا ووثاقيًا transition pactée وبدون انسلاخ عن الماضي (سفيرة اسبانيا في لبنان Milagros Hernando). وتم التشديد على ان "الاستعارة لا تحل محل الاصالة" (واصف الحركه). ما يواجه المجتمع اللبناني اليوم ضرورة التقيد بالميثاق الذي هو الدستور الحي (خالد قباني) والاقرار بحقوق الانسان في شموليتها. نفتقر غالبًا الى منهجية علمية ومقارنة في تصنيف النظام البرلماني اللبناني التعددي. تُبين العودة الى ذاكرة الحوارات اللبنانية المساعي الايجابية في التوفيق بين التوازن بين السلطات والفصل بين السلطات.

3 - حماية النسيج التعددي العربي: من ابرز مقتضيات التأصيل حماية النسيج التعددي العربي من الصهينة التي هي الترادف بين مساحة جغرافية ودين مُحدد. تتمتع المجتمعات العربية بتراث عريق طوال قرون في ادارة تعدديتها نقضته انظمة استبدادية عربية انطلاقًا من مفهوم ضيق الافق للقومية والاندماج. جاء في احدى المداخلات قول مسؤول عربي رفيع في بلد مجاور لأحد اللبنانيين: "لدينا طائفية اكثر منكم بكثير ولكننا نعرف كيف نقمعها!"

4 - بناء المجتمع: يتطلب البناء الديموقراطي ثقافة ديموقراطية اندماجية inclusive democracy (سفير مصر في لبنان، اشرف حمدي) وبنية علاقات لا تقوم على القوة والنفوذ فلا تكون سلطة لأحد بل تفاوض في اطار القانون (Peter Rimmele). بدون مجتمع فاعل يصعب تحقيق ديموقراطية (سفيرة اسبانيا في لبنان Milagros Hernando). يتطلب تاليًا التحول الديمقراطي على مستوى المجتمع التوجهات التالية:

- نشر الثقة بدلاً من التشاؤم حول الوضع القائم (طوني عطالله). ومن يساهم في تعميم التشاؤم اعلاميون واكاديميون بعيدون عن هموم الناس فيدعمون بذلك ارباب الانظمة السلطوية القديمة.
- صحافة حرة ومستقلة وداعمة للمسار.
- تعزيز المواطنية، بخاصة من خلال بناء ذاكرة وطنية مشتركة (شفيق المصري، سعيد صناديقي...).
- حوارات وطنية لمعالجة التناقضات التي عملت الديكتاتوريات على اخفائها وقمعها
(ميشال سماحه).
- تفعيل دور النقابات التي توفر البوصلة حول قضايا الناس اليومية (سفير مصر في لبنان، اشرف حمدي).
- التمييز بين التعبئة mobilisation التي قد تنتشر بفضل وسائل التواصل الاجتماعي وبين المشاركة المواطنية participation الواعية والملتزمة والهادفة.
- فضح اساليب التلاعب بخاصة من خلال خبراء في السياسة الطائفية وليس "الطائفية السياسية" كما هو متداول.

5 - مواجهة الفوضى من خلال مقاومة مدنية: تتصف مرحلة ما بعد الديكتاتوريات بحالة من الفوضى يقتضي العمل على مواجهتها من خلال مقاومة مدنية. هل نعيش اليوم نهاية المثقفين؟ بدلاً من تشجيع الحراك العربي ينساق مثقفون في تحليلات اكاديمية تشاؤمية وكأن لا دور ولا علاقة لهم بالمجتمع. ورد في احدى المداخلات ان في المنطقة العربية اكثر من فولتير Voltaire ولكن لم يتحول ذلك الى تيار فولتيرية voltairianisme.

6 - الحكمية الدستورية: كيف تدار مرحلة ما بعد الدسترة؟ يوفر لبنان مثالاً، مع بعض الاستثناءات الايجابية، لسوء ادارة ما بعد مرحلة وثيقة الوفاق الوطني - الطائف. أما النموذج الامثل لإدارة مرحلة الدسترة وما بعدها فهي اسبانيا.

ترتبط فاعلية القوانين بخمسة عناصر غير القانون الوضعي: القيادة الحاكمة، وتوازن القوى في المجتمع، ووضع القضاء، والثقافة السياسية السائدة، والقدرات الادارية والمالية. افضل الدساتير هو تاليًا مجرد وصفة طبية وليس العلاج. يكمن العلاج في الاستعمال الفعلي للدواء وطريقة استعماله. هل نعيش الحقوق الاساسية ونحترم المبادئ؟

(Peter Rimmele). المشاكل في لبنان اليوم ليست في الدستور، اذ لدينا نصوص ممتازة اما التطبيق فهو في مكان آخر. والدستور هو خريطة ومنهجية (خالد قباني). يقتضي تاليًا "دسترة الجمهورية" (سفير تونس في لبنان حاتم الصائم) والعمل على التطبيق الفعلي للدستور وليس تعديل نصوص حيث ان التطبيق هو المحك.

ما حصل بعد وثيقة الطائف هو انفراد القيادة وتبعيتها ووضع اللعبة السياسية بيد اربعة اشخاص او خمسة (عباس الحلبي) والتلاعب بالقواعد الدستورية لجعل النظام غير قابل للحكم الا من خلال باب عال.

يقتضي في عملية الدسترة ارساء العدالة الدستورية لسببين على الاقل: اولاً بسبب احتمالات التواطئ بين الاكثرية النيابية والاقلية لعدم الطعن بدستورية قانون، وثانيًا بسبب التحولات في فاعلية تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات.

* * *

في البحث عن التحولات والاصالة يُستخلص من الندوة اهمية الخبرة اللبنانية، في سلبياتها وايجابياتها، والخبرات المقارنة، وضرورة بروز يقظة وطنية شاملة وعلاجية لمأسسة الوضع في "لبنان الرسالة التي نحن مؤتمنون عليها" (عباس الحلبي)، حيث من "حجارة لبنان يمكن ان نبني قصرًا" (انطوان سيف).