التاريخ: آذار ٣٠, ٢٠١٥
الكاتب:
المصدر: مجلة رؤى مصرية
اللجوء إلى الأطراف: الجغرافيا المتحركة للعنف الإسلامي في مصر
في أعقاب التحول السياسي الذي وقع في مصر في 30يونيو/ 3 يوليو 2013 وإزاحة الإخوان من الحكم ثم فض اعتصامي رابعة والنهضة، عرفت مصر مناخاً جديداً من التظاهرات الاحتجاجية الإسلامية المشوبة بالعنف التي يمكن النظر إليها باعتبارها العتبة الأولى للتبرير العقدي والشرعي الزائف للإرهاب باعتباره "جهاداً". 

مهد هذا المناخ الطريق أمام  تحولات سياسية ثلاثة مهمة؛ أولها تلاشي الخط الفاصل بين السلمية والعنف في تظاهرات الإخوان ومؤيديهم، وثانيها التحول من سلمية الميادين إلى عنف الأحياء العشوائية على أطراف المدن، وثالثها انتشار نمط الإرهاب العشوائي البدائي التلقائي – غير المنظم في حالات عديدة – للأفراد أو مجموعات الرفاق،  من قبيل استهداف أفراد أو آليات أو ممتلكات الشرطة أو الجيش أو المرافق عامة. وعلى الرغم من محدودية الأثر المباشر لتلك العمليات ، إلا أن تكرارها وتراكمها نتيجة لسهولتها النسبية واتساع القاعدة الاجتماعية للقادرين على تنفيذها، كل هذا أدى لتحول نوعي مهم في طبيعة الحالة الإرهابية في مصر. 

البيئة الحضرية للعنف الإسلامي

لاحظ الباحث الإيراني آصف بيات أن "النزعة الإسلامية بشكل عام لا تبدى اهتماماً سياسياً أو أخلاقياً خاصاً بفقراء الحضر الذين لا يعبرون عن التزام إيديولوجى بالممارسات السياسية ذات النزعة الاسلاموية "  التي تطرحها جماعة الإخوان التى أثبتت دراسات عديدة أن خطابها و ممارساتها تتوجه وتستهدف بالأساس المتميزين من الطبقة الوسطى كالطلاب والموظفين و المهنيين و التجار في قلب المدن وفي الريف أيضاً، وهما يمثلان نمطين من البيئة المستقرة اقتصادياً وثقافياً نسبياً تتوافق مع ما كانت جماعة الإخوان تطرحه طوال السنوات الماضية من نهج سياسي سلمي يستبعد العنف.

يختلف الحال في الأحياء الواقعة على المساحات العشوائية المتداخلة بين المدينة والريف، التي عادةً ما يتداخل فيها فقراء قادمون من الريف بمنظومة قيمهم المستقرة، مع فقراء مدينيين ملفوظين من قلب أحياء المدينة الفقيرة الداخلية إلى أطرافها. هؤلاء الأخيرين عادةً ما يأتون بمنظومة قيم عشوائية مدينية ترتبط بالأنشطة التجارية الصغيرة غير الرسمية ومنهم من يتورط في أعمال غير مشروعة كتجارة المخدرات أو الأسلحة. هؤلاء عادةً ما يكونون وقوداً لأى غضب جماهيري واسع حتى ولو تحت شعارات "دينية"، كما أنهم مصدر تصعيد المشاجرات الجماعية والعائلية في مناخ يتسم ب "اللامعيارية". عادةً ما يصطنع الأهالي ذوي الأصول الريفية حالة من التقوقع والإنفصال الحذر عن المحيط الاجتماعي في محاولة للحفاظ على  قيمهم الريفية خاصة مكونها السلفي التقليدي بوجه خاص الذي يسهم بدوره في تحويل بعض الخلافات الاجتماعية اليومية العادية لصدامات طائفية أحياناً، وعادة ما تصدر هذه الأحياء للمجتمع بعضاً من أبنائها الذين ينتهجون طريق السلفية الجهادية.  

هؤلاء الأهالى الغاضبون مؤهلون في الواقع للإستجابة لأى حركة سياسية احتجاجية تعبر عن غضبهم تجاه الدولة و النظام الاجتماعى, سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية. ونتيجة للضعف الجماهيري للحركات الديمقراطية أو الإشتراكية من ناحية، وخطورة المسار السياسي الأشد عنفاً للجماعات الجهادية من ناحية أخرى، يرجح أن شحنات الغضب الاحتجاجي الكامنة لدى قاطني هذه الأحياء قد تلاقت مع عملية التحول التي جرت خلال السنوات الأخيرة من الفكر السلفي التقليدي الذي كان يركز على الدعوة فقط إلى الدخول بحماس إلى المعترك السياسي، كما أن بعض فصائل التيار السلفي أصبحت تستخدم العنف في التعبير عن آرائها بشكل متزايد . 

ويرى بيات أن العلاقة بين الاسلاميين وبين فقراء الحضر هى محض علاقة براجماتية نفعية تقتصر على محاولة توظيفهم لأهدافهم السياسية، ويقارن هذه العلاقة بتلك العلاقة العضوية بين حركات لاهوت التحرير والفقراء في أمريكا اللاتينية، حيث تبنت هذه الحركات مصالح الفقراء  وتمت ترجمة ذلك في البرامج السياسية وفي المواقف والممارسات السياسية بشكل واضح.

عنف الأحياء: الخرائط الحضرية المتحركة 

ثمة آلية تفسر تزحزح بؤر التوتر في العشوائيات الطرفية؛ فمع مرور الوقت وارتفاع المستوى الاقتصادي لساكنيها نسبياً مع نمو نشاطاتهم الاقتصادية الصغيرة غير الرسمية وانخفاض مستويات القلق الاجتماعي لسكانها بعد أن تعتاد الفئات الاجتماعية المتنافرة على التفاهم والتواضع على معايير جديدة مشتركة لتسيير الحياة، مع كل هذه التفاعلات، تهدأ حالة الشعور بالحرمان النسبي وحالة الغضب ضد الدولة والنظام الاجتماعي، وهى الحالة التي تكون قد انتقلت في نفس الوقت إلي مناطق طرفية عشوائية جديدة أكثر بعداً عن قلب المدينة، وهذه تدخل بدورها بسرعة في حالة القابلية للصدام مع الدولة  ... وهكذا. 

ويمكن تطبيق هذه الآلية على العديد من المناطق العشوائية على مستوى الجمهورية مثل الحزام الطرفي السلفي الواقع جنوبي الإسكندرية، وكذلك منطقة حلوان وضواحيها التي برزت خلال الشهور الأخيرة كواحد من أقوى مراكز العنف الأهلي المحلي المؤيد للإخوان وجبهتهم الإسلامية والتي شهدت مؤخرا ما عُرف ب"كتائب حلوان".

حالة أحياء جنوب غرب الجيزة

في مواجهة أحياء الطبقتين الوسطى والعليا لمحافظة الجيزة (الدقي والمهندسين والزمالك ...) ضمن القلب الحضري للقاهرة الكبرى، تقع المنطقة العشوائية المقصودة في الطرف الغربي الجنوبي للمحافظة.  في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي تبلورت حالة الغضب الأهلي المحلي في هذه المنطقة حيث نشأت "جمهورية إمبابة الإسلامية" التي أعلن قيادي الجماعة الإسلامية جابر محمد تحريرها من قبضة الدولة وإدارتها ذاتياً وتعهد آنذاك بنشر النموذج تدريجياً في كل أنحاء مصر، قبل أن يقتحم 15 ألف جندي الحى لاستعادته إلى الدولة مرة اخرى. 

خلال عقدين من الزمان كان الحراك السكاني العمراني للعشوائيات الفقيرة قد تحرك تدريجياً في الاتجاه الجنوبي الغربي ذاته حيث أحياء بولاق الكرور والمعتمدية وناهيا، وهى المناطق التي خرجت منها الكتلة البشرية الرئيسية التي حولت أحداث 25 يناير 2011 من محض تظاهرات احتجاجية نخبوية محدودة إلى حالة الإنتفاضة الشعبية الثورية المليونية، حين تحركت شرقاً عابرةً الخط الفاصل بين التكوينين الحضريين المتناقضين (شارع السودان) إلى ميدان مصطفى محمود، بل إنها فرضت على الشباب الداعي للإحتجاج التحرك نحو ميدان التحرير برمزيته الحضرية الرفيعة باعتباره قلب المدينة/العاصمة بل القلب الحضري للبلاد كلها. ينطبق على هذه الكتلة الواسعة المتنوعة وصف بيات؛ فهى كتلة شعبية عامة غير محددة الأيديولوجية في غالبيتها على استعداد للمشاركة في أى تعبير احتجاجي غاضب ضد الدولة، أياً كانت أيديولوجية الطرف السياسي الداعي للإحتجاج. 

بعد أكثر من عامين وصل خلالها الإخوان للحكم ثم أزيحوا منه بانتفاضة شعبية، شهد الامتداد العمراني ذاته حالة من الصدام الأهلي المشابه لحالة "جمهورية امبابة الإسلامية "، في الاتجاه الجنوبي الغربي أيضاً من حى ناهيا، وتحديداً في قرية "كرداسة" التي تختلف عن الأحياء العشوائية التقليدية الفقيرة، إذ تتميز بدرجة عالية نسبياً من الفاعلية والاستقلالية الاقتصادية عن الدولة والمركز الاقتصادي في القلب الحضري القاهري (سلسلة من الورش وصناعة مربحة للنسيج التقليدي)، وهو " ما رفع مستوى التمدرس، وأتاح للأبناء ...أن يحجزوا لأنفسهم مواقع في الطبقة الوسطى الصاعدة" ، وهو ما يفسر سيادة المناخ الإخواني أكثر من السلفي فيها. 

في يوم 3 يوليو 2013 سقط سبعة قتلى من المتظاهرين ( منهم ثلاثة من ناهيا  المجاورة ) ، وفي أعقاب فض اعتصامي رابعة والنهضة، وقعت في المنطقة ذاتها أعنف مصادمات بين الأهالي وقوات الأمن، في أعقاب مذبحة ارتكبها مسلحون بآر بي جي وبنادق آلية هاجموا ضباط وأفراد مركز الشرطة  وأشعلوا به النيران وقتلوا لوائين وعقيد ونقيبين و7 آخرين من الأمناء والأفراد بعد فاصل من السحل والتعذيب والتقطيع بالسنج والأسلحة البيضاء ثم القتل بالرصاص، قبل أن تقتحم قوات الشرطة والجيش المنطقة. 
     
حالة أحياء شمال القاهرة جنوب القليوبية

المقصود هنا هو تلك الدائرة التي تضم عدداً من الأحياء الفقيرة العشوائية شمال القاهرة جنوب القليوبية ومركزها حى المطرية. ويمكن التأريخ للإرهاصة الأولى لنشوء نمط العنف الإسلامي في هذا الاتجاه الحضر بحوادث تفجيرات العبوات البدائية  التى تكررت فى بعض مناطق القاهرة الإسلامية المكتظة بالسياح وميدان عبدالمنعم رياض قرب المتحف المصرى وإطلاق النار على أتوبيس سياحى بمنطقة السيدة عائشة عام 2005 ، ، ثم تفجير منطقة الحسين عام 2007. 

يكشفت التحليل الاجتماعي لتحقيقات النيابة في هذه القضية، أن المحكوم عليهم والمتهمين و الشهود الذين تجاوز عددهم السبعين ينتمون للمنطقة الجغرافية ذاتها، حيث دارت معظم أقوالهم و رواياتهم فى المثلث الواقع بين أحياء شبرا الخيمة و بهتيم و المناشى، كما ثبت ترابط و انتماء  الفاعلين فى هذه العمليات لذات الشبكات الاجتماعية؛ سواء من حيث الترابط العائلى أو الانتماء لجماعات الرفاق فى الحى و المنطقة عموماً. 

في الشمال من شبرا الخيمة يقع حى المطرية وهو بمثابة القلب من هذه المنطقة العشوائية المترامية الأطراف، ويعد ميدانه بمثابة القبلة التي تتجمع فيها طاقات الغضب الاحتجاجي عادةً. خلال انتفاضة يناير الثورية كانت المطرية من بين المواقع الأكثر فعالية والأوفر شهداءً، وفي أعقاب إزاحة الإخوان من الحكم كانت المكان الوحيد المستعصي على قوات الأمن ، والشاهد على تظاهرات بأعداد كبيرة لم يكن من الممكن احتواؤها إلا بصعوبة. ولكن على الرغم من الوجود الإخواني في الحى، إلا أنه لا يختلف عن معظم الأحياء العشوائية الغاضبة الجاهزة للتحرك مع أى حركة سياسية ضد الدولة، ومن المؤشرات الدالة على ذلك نسب التصويت في أول انتخابات رئاسية بعد الثورة؛ إذ جاء صباحي في المرتبة الأولى يليه شفيق ثم مرسي وأخيراً أبوالفتوح، وهو ما يرجح استغلال الإخوان لحالة الغضب الاجتماعي العامة ولحالة التحالف النفسي بين اهالي الحى ذوى الميول السلفية والإخوانية تحت شعار الانتصار للتيار الإسلامي العام. 

في الاتجاه الشمالي ذاته تظهر بؤرة أخرى للعنف في قرية "عرب شركس" جنوب القليوبية، حيث دهمت قوات الأمن ورشة لتصنيع القنابل فيها وقتلت ستة مسلحين على الأقل، كما قُتل خبيرا مفرقعات من الجيش في العملية التي استمرت خمس ساعات. من ناحيتها أعلنت السلطات أن العملية مثلت ضربة كبيرة لقدرات «أنصار بيت المقدس» التي نفذت غالبية الهجمات ضد أهداف أمنية وعسكرية خلال الشهور التسعة الماضية وحاولت اغتيال وزير الداخلية. وكانت جماعة «أنصار بيت المقدس» قد نعت  قتلى عرب شركس باعتبارهم شهداء، وتشير أقوال المتهمين في محاضر تحقيقات النيابة إلى انتمائهم للفكر السلفي الجهادي – لا الإخواني- بل إن بعضهم انتقد الإخوان بسبب تراخيهم في تطبيق الشريعة خلال فترة حكمهم للبلاد . 

فؤاد السعيد باحث في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية