التاريخ: حزيران ٢, ٢٠١٥
الكاتب:
المصدر: the network
ماذا لَوْ كان سمير قصير ما زال بيننا اليوم؟
قراءة في كتاب "ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان – البحث عن ربيع دمشق" بعد 10 سنوات على اغتيال كاتبه
ماذا لَوْ كان سمير قصير ما زال بيننا اليوم؟
ماذا كان سيعدّل أو ينقّح أو يضيف أو يزيل في ما نشره في كتاب "ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان – البحث عن ربيع دمشق" الصادر عام 2004؟

لطالما راودني هذا السؤال منذ 15 آذار 2011 يوم اندلاع أول انتفاضة سلمية في درعا. والآن، بعد أربع سنوات من هذا الحدث التاريخي التأسيسي ما زال هذا السؤال حاضراً بقوة. أحاولُ من وقت الى آخر، وعند كلّ منعطف تدخل فيه الثورة السورية أن أعودَ الى هذا الكتاب لأتلمّسَ أجوبة أو تفسيراتٍ لما يمكن أن يصل اليه العنف المتمادي للنظام الحاكم أو للحزب أو للعائلة، ولكن أيضاً العنف المقابل الذي استشرى لدى فئات واسعة من الشعب "المقموع"، آليات عمل العُنفَيْن، منطلقاتها، ظروفها وتبعاتها. 

قلتُ ألجأ الى نصوص سمير قصير، وبعضها كُتبَ في مرحلة مبكرة (1997) لا بل سابقة حتى على أقصى ما كنّا نفكّر به تجاه هذا النظام، مع علمي المسبق بأنها لم تُكتَب بهدف بحثي، ولا تمثّل دراسات سياسية أو اجتماعية معمَّقة عن موضوعات الثورة والعنف، ولا عن احتمالات تطورهما تقدّما أم تراجعا أم مراوحة. فسمير كاتب رصين يكتب السياسة والاجتماع بلغة وبلاغة رائعتين ولكن أيضاَ بمنهج علمي صارم لا يَدَع مكانا للتنبؤات "العبد لطيفية" ولا لأحلام اليقظة. وهو الحالم أبداً بالتغيير والعاملُ من أجله بحماس وعناد وثبات أيضاً.

ولكني أعودُ إليها، لأنها تروي بطريقة عجيبة "سيرة الموت المعلن" لمملكة الخوف، كما أسماها صديقه المناضل السوري المعارض رياض الترك وله في الكتاب حصّة وافرة. رواية تكاد تكون تأريخية يوما بيوم منذ "وفاة الديكتاتور" (والعبارة أيضا للترك أطلقها على قناة "الجزيرة" يوم إعلان وفاة حافظ الأسد فتسبّبت بزجّه في السجن مرة جديدة أياما قليلة بعد الافراج عنه بعد 17 سنة قضاها في المعتقل) وتسلّم نجله السلطة. وشكّلت مادة الكتاب الموزّعة على 54 مقالا اسبوعياً كانت، للمفارقة الرمزية، تصدر في الصفحة الأولى لجريدة النهار صباح كلّ يوم جمعة. وكأنها الارهاصات الأولى للمظاهرات السلمية التي ستخرج في وجه النظام لاحقاً في كلّ يوم جمعة منذ آذار 2011!

هو إذا تأريخٌ من نوع آخر. واكب فيه المؤرخ موت الأسد الأب وانتقال السلطة للأسد الأبن مواكبة "لصيقة". اعتنى بأدق التفاصيل. الاحتمالات والتوقعات والآمال والآمال الكاذبة. وشارك كتابةً وتحليلا وفرحاً عارماً في ما اصطلح على تسميته "ربيع دمشق"، قبل أن يدرس عن قرب انقلاب الأبن على وعوده أو على إشاراته التي في الحقيقة لم ترقَ الى وعود، عارضاً أفكارا وتجارب وأحيانا نصائح بأسلوب الناشط والمناضل والسياسي البراغماتي، وليس بأسلوب المثقف والمنظّر الاكاديمي المُحايد. وبقيت عينه على التحوّل العكسي في السلطة الذي ربما يكون وصل اليوم الى مرحلته النهائية. عنيتُ تحوّل السلطة من حكم الحزب الواحد الى حكم الطائفة فالعائلة. تحوّلا سرّعته وعمّقته  انتفاضة الشعب السوري.

ولعلّ سرُّ نجاحه في "خرق" الأسوار العالية والعبور الى ما قد يكون الفهم الأكثر دقة لآليات حكم الأسد، يكمن إضافة الى علاقاته المقرَّبة بعددٍ كبير من المعارضين السوريين، مثقفين وغير مثقفين، حزبيين ومستقلين، في توصّله الى المعادلة المركزية التي تربط بين استقلال لبنان وديمقراطية سوريا. الموضوعة الأكثر حضوراً في الكتاب، صراحة وموارَبة،  من غلافه الى سطره الأخير.

هذا الربط ليس قائماً فقط لأن الحاكم هوَ هوَ، هناك وهنا. ولكن لأن آلية حُكمه للمجتمع اللبناني المتنوِّع والمتعدّد، ونجاحه "الاقليمي" في تسويق ذلك، أتاح له إطالة أمَدَ استبداده على الشعب السوري، خلافَ ما كان أغلبنا يعتقدُ هنا في لبنان، أنّ لا خلاص لنا طالما أن الأسد حاكما في سوريا. فموتُ الأسد الأب أنتج الأسد الابن، الذي لم يكن أقلّ شراسة ودموية من أبيه بالرغم من كل مظاهر الحداثة التي ادّعاها وصُوَرِ زوجته الأنيقة والبهرجة التي انطلت على أغلفة صحف أوروبية مُعتبَرَة. فكان موت الأب سينتج في ظروف مماثلة أيّ "إبنٍ" آخر.

فيما وكما لاحظ سمير، في غير مقال ومقام، أن انسحاب الجيش السوري من لبنان سيكون المسمار الأول والأقسى في نعش النظام. الذي سيفقدُ شيئا فشيئا مشروعية بقائه "القومية" وهيبته ووهرته، إضافة الى خساراته المادية غير المنظورة ولكن الضخمة جداً والتي لطالما أشار اليها الكاتب، وقد بدأت تتكشّف بعض حقائقها في اعترافات الطبقة السياسية والمالية اللبنانية التي كانت رهينته أو شريكته أو "عميلته التجارية" آنذاك، أمام المحكمة الدولية ولجنة التحقيق وغيرهما.

ولأن الانسحاب العسكري السوري من لبنان لم يعنِ انسحابا سياسياً منه، وبقيت عينُ النظام ترصد وتنتظر الفرصة للانقضاض مجددا والانتقام من فَرْضِ خروجه المذل، فقد عوّض عن هذا المشهد المُهين، ككلّ نظام ديكتاتوري، بإخراج السوريين من بيوتهم بالقوة في مظاهرات تأييد "مليونية" مضادة في شوارع دمشق وفي كافة المحافظات، لاستيعاب صدمة الانسحاب وإقناع الشعب السوري أننا "ما زلنا أقوياء ولن ينالوا من سورية الأسد". لم تكن الرسالة موجهة بطبيعة الحال الى المجتمع الدولي، كما اعتقد أكثرنا، فهذا الأخير كانت وصلته الرسالة الأصلية منذ قليل "نحن ننسحب تطبيقا للقرار 1559"! بينما هنا الرسالة المزوَّرة هي بحتُ داخلية لم يعرف أهميتها سوى المواطن السوري الذي قد يكون شعَرَ للمرة الأولى بهشاشة وضعف النظام الذي يحكمه. وقد أدرك ذلك جيدا سمير قصير بحسِّه "السوري" ومنهج تحليله العلمي الملتصق بالناس في سوريا ولبنان، فدفع بقوة باتجاه إستفادة الشعب السوري من هذا الخروج. 

إنها الجدلية السياسية في أعلى درجات وضوحها. لا استقلال للبنان من غير ديمقراطية في سوريا ولكن أيضا لا خلاص لسوريا وللشعب السوري من غير الانسحاب من لبنان. هذا "الحسّ السوري" بالذات هو ما أقلق نظام الأسد. 

عندما تتصفحَ الكتاب تتملكُكَ الدهشة ليس فقط لجرأة وشجاعة سمير، فكثيرون خارج سوريا كانوا يسوقون حتى الشتائم للنظام ولكنهم لم يشكّلوا ولا مرة خطرا عليه، وإنما للتحليل الدقيق اللصيق والمتابع بمثابرة للتحوّلات والانحناءات والتنازلات أمام مَن كان يدّعي النظام الغطرسة عليهم أمام شعبه. ولا مبالغة في القول أن عاموده الأسبوعي في "النهار" أقضّ مضاجع مخابراته لإدراكهم أنه يصل بسرعة الى مَن يعنيهم الأمر (الشعب السوري) كالطائرات الخفيفة الدقيقة من دون طيار. وسمير قصير لا يمكنكَ أن تمرّرَ كذبة أنه رجعيٌ أو عميلٌ أو خائنٌ أو غير مقاومٍ أو بترودولار. 

... وسيكون تالياً إسكاتُه صعباً للغاية بغير عبوة ناسفة تحت مقعد سيارته.

*ورقة تقديم كتاب "ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان – البحث عن ربيع دمشق" في ندوة عن الكتاب أقامتها مؤسسة سمير قصير في ذكرى اغتياله العاشرة في جامعة القديس يوسف في 22 ايار/مايو 2015