التاريخ: آب ٤, ٢٠١٦
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الاقتصاد السياسي لـ"الربيع العربي": البحث عن الحَلقة الفاضِلة - بول آرتس وسمير مقدسي
اعتبر مارك لينش، في مقال نُشِر حديثاً في صحيفة "الواشنطن بوست"، أنه من الخطأ القول بأن الانتفاضات العربية باءت بالفشل، مشيراً إلى أن الكلام عن "النجاح أو الفشل" لا يُفيد في فهم هذه الآليات المجتمعية والسياسية. وختم قائلاً: "دعونا نبتعد عن هذه الثنائيات"، لافتاً إلى أنه بعد انقضاء خمس سنوات، ظهرت منظومات سياسية جديدة يجب فهمها في ذاتها – وهذا استنتاج صحيح لكنه ليس جديداً.

رأينا ذلك قبلاً، كما تُظهر البحوث الوافية عن المراحل الانتقالية للأنظمة منذ الحرب العالمية الثانية، وفي شكل خاص بعد نهاية الحرب الباردة. وفي هذا الإطار، يمكن أن نشير على وجه التحديد إلى أعمال باربرا غيديس وفريقها، وكذلك أعمال ستيفن لويتكسي ولوكان واي. لقد تبيّن أنه في أكثر من نصف الحالات التي سقطت فيها أنظمة، حصل انتقال من أوتوقراطية إلى أخرى. أدّت أقل من ربع التغييرات في القيادة إلى عملية "دمقرطة" أو تقدّم نحو حكم ديموقراطي (لكن في أكثرية الحالات ظلّت هذه التغييرات دون تحقيق "ديموقراطية" راسخة بحسب المعنى المتعارف عليه).

إذاً لا شيء جديد هنا. لا وجود لـ"انتقال" تسلسلي نحو الديموقراطية، وهذا يتعارض إلى حد كبير مع المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها أولئك الباحثون، داخل العالم العربي وخارجه (وربما – ولعل هذا مفهوم أكثر – في أوساط عدد كبير من الناشطين)، الذين يعانون ربما مما يسمّيه الألمان Zwangsoptimismus (تُترجَم "التفاؤل القسري"). بالطبع، أبدى باحثون آخرون حذراً أكبر، مشدّدين على أهمية تطبيق سياسات سياسية واقتصادية-اجتماعية شاملة باعتبارها شرطاً مسبقاً لتحقيق انتقال ناجح نحو الديموقراطية.

الكرامة والرغيف
أحد الدوافع الأساسية وراء الانتفاضات الأولى كان الرغبة في التخلص من القبضة الأوتوقراطية وتحقيق شكل من أشكال الحرية السياسية. لكن العامل الذي ساهم إلى حد كبير في تعزيز هذه الرغبة كان مستويات البطالة المتزايدة، لا سيما البطالة في صفوف الشباب التي بلغت مستويات عالية نسبياً. لاحقاً، تحوّلت ثلاث انتفاضات حروباً أهلية همجية، تقاطعت معها تدخّلات أجنبية ناشطة، مع كل ما ترتّب عن ذلك من تداعيات اقتصادية-اجتماعية وسياسية مروّعة.

حتى الآن، لم تؤدِّ الانتفاضة في حالة واحدة (مصر) إلى أي مكان فعلياً. وحدها تونس تحمل وعوداً أكبر، على الرغم من أنه لا يمكن الجزم بعد بأن تطبيق سياسات اقتصادية أكثر شمولاً، بما في ذلك معالجة مسألة البطالة، قد تكلّل بالنجاح.

في شكل عام، كان تركيز الاحتجاجات المؤيّدة للديموقراطية على مسألة الاقتصاد أقل بالمقارنة مع التركيز على السياسة. إذاً، في حين أن "الربيع العربي" كان متجذّراً إلى حد كبير في الاحتجاجات على "الحل" النيوليبرالي، ظلّت الاحتجاجات سياسية الطابع في شكل أساسي، ولم تستقطب مسائل الإجحاف الاقتصادي أو الخلل الوظيفي الاقتصادي القدر نفسه من الاهتمام. وبعد الانتفاضات، تدهور الوضع على مستويَي الاقتصاد والوظائف أكثر فأكثر.

بناءً عليه، وفي حين أنه يمكن تفسير إطاحة الحكّام الديكتاتوريين بأنه مؤشّر عن نجاح الانتفاضات العربية، يشكّل تدهور الأوضاع، بما في ذلك الآفاق الوظيفية، مؤشراً مضاداً عن عدم نجاحها، أقلّه حتى الآن. تعطي مصادر مختلفة أرقاماً متباينة في ما يتعلق بالوظائف التي يجب توافرها في المستقبل القريب. لكن بصرف النظر عن المصدر الذي تتم الاستعانة به، الأرقام صاعقة – لا سيما في ما يختص ببطالة الشباب. في شكل عام، لدى الإناث في عمر الشباب، حظوظ أقل بمعدّل ثلاث مرات بالعثور على وظيفة بالمقارنة مع الذكور.

الرضى في مقابل الإكراه
فضلاً عن تدهور الأوضاع الاقتصادية منذ عام 2011، وارتفاع البطالة، تواجه الأنظمة الجديدة (كما في تونس) المعضلة الكبرى المتمثلة في سبل تحقيق المعافاة الاقتصادية مع الحفاظ على عملية انتقالية مستقرة. السعي إلى الحصول على المساعدة الدولية يُرغِم الأنظمة تقليدياً على تطبيق إصلاحات موجّهة نحو السوق (تفرضها المؤسسات المالية الدولية على غرار صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) – مثل خفض الدعم الحكومي وتسريح الموظفين الحكوميين. إنهم يجازفون، عبر قيامهم بذلك، بخسارة الدعم من الأشخاص الذين أوصلوهم إلى السلطة، أي إنهم يواجهون خطر خسارة الشرعية التي اكتسبوها حديثاً.

قد يؤدّي البديل عن عدم الامتثال لطلبات المؤسسات الدولية، و"الإصغاء إلى الناس"، إلى تململ اقتصادي أكبر مع نتائج سياسية ملتبسة. هكذا نصل إلى صلب الموضوع والسؤال الأساسي: ما السبيل للتوفيق بين الإصلاحات الموجّهة نحو السوق من جهة والعدالة الاجتماعية من جهة ثانية؟

هذا هو التحدّي الكبير الذي تواجهه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد الانتفاضات: تحقيق توازن بين الحاجة إلى إعادة إرساء الاستقرار الاقتصادي من جهة وتوليد آفاق للنمو وتطبيق سياسات اقتصادية-اجتماعية أكثر إنصافاً من جهة ثانية. لقد رُفِع هذا التحدي بنجاح في بلدان أخرى كما في حالة تشيلي. في منطقة الشرق الأوسط التي تسودها النزاعات حالياً، ستكون هذه المهمة أصعب بكثير مما هو مفترَض.

البحث عن "الحلقة الفاضلة"

أجريت بحوث كثيرة عن الرابط بين نوع النظام والتنمية الاقتصادية. وقد اختصر برجيفورسكي هذا الرابط على الشكل الآتي: لا سبب للاعتقاد بأنه في المعدل، النمو في الأنظمة غير الديموقراطية أعلى منه في الأنظمة الديموقراطية. أو نقلاً عن خبير اقتصادي آخر هو داني رودريك: "في مقابل كل بلد سلطوي نجح في تحقيق نمو سريع، هناك العديد من البلدان السلطوية التي تتخبّط. في مقابل كل حاكم على غرار لي كوان يو في سنغافورة، هناك كثرٌ من أمثال موبوتو في الكونغو".

بيد أن السؤال حول ما إذا كانت الأنظمة الديموقراطية أفضل أداء على المستوى الاقتصادي مفتوح على آراء متباينة. في هذا الإطار، ثمة استنتاج راسخ واحد: من المؤكّد أن الديموقراطيات الثابتة لديها احتمال أكبر بالصمود والبقاء في البلدان ذات الدخل الفردي الأعلى (الهند استثناء لافت في حين أن السلطوية المتزايدة في تركيا في عهد أردوغان – الواضحة جداً قبل وقت طويل من التطورات الأخيرة التي شهدتها البلاد بعد الانقلاب – قد تُسقِط النظرية الديموقراطية).

يبدو أن "الديموقراطية نادراً ما تظهر في البلدان المتخلّفة اقتصادياً، وفي حال ظهورها، لا تدوم طويلاً". هل المقصود بذلك أن الاقتصاد السليم، كما يزعم طارق مسعود، هو شرط مسبق أساسي لتطبيق سياسة شاملة؟ وهل يعني أنه يجب وضع الدمقرطة على لائحة الانتظار؟ يجيب مسعود، بالطبع لا.

مما لا شك فيه أن الديموقراطية مهمة في ذاتها، لكن قد يكون من المهم الإشارة إلى الحاجة إلى "قيادة سياسية مستنيرة تعطي الأولوية لبناء مؤسسات حكومية تتمتّع بالكفاية، ومكافحة الفساد، وتوسيع الفرص الاقتصادية". الأمثل إذاً هو تحقيق حلقة فاضِلة حيث تدعم إصلاحات الحكم النمو ما يؤدّي بدوره إلى حكم أفضل وحتى نمو أسرع.

في هذا السياق، يمكن أن يمارس نمو الطبقة الوسطى وتحسّن مستويات التعليم تأثيراً تحديثياً يساعد على توليد ظروف أكثر مؤاتاة من أجل التقدّم نحو بيئة ديموقراطية. (لا يعني ذلك أن الطبقة الوسطى هي دائماً وفي كل مكان "رأس حربة الدمقرطة").

في حالة المنطقة العربية تحديداً، لم يكن هذا هو الحال في شكل عام (خلافاً لمناطق أخرى في العالم)، لا سيما بسبب التأثيرات السياسية السلبية للثروة النفطية الهائلة في الأنظمة غير الديموقراطية (في منطقة الخليج الغنية بالنفط) فضلاً عن النزاعات، على غرار النزاع العربي-الإسرائيلي الذي لم يلقَ حلاً عادلاً بعد. وقد استقطب تداخل هذه العوامل تدخّلات خارجية مضرّة تسبّبت بمزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة، ما أدّى إلى عرقلة التنمية الاقتصادية.

مرحلة ما بعد العمل واضمحلال التصنيع
من البديهي الاستنتاج بأنه في هذا السياق القاتم، سيكون العثور على وظائف معركة شاقة – إن لم يكن مهمّة مستحيلة.
إذا أضفنا إلى المعطيات المذكورة آنفاً عن منطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا – حيث تسبّبت الثروة النفطية عادةً بتأخير التنوّع الاقتصادي المحتمل – النزعة العالمية نحو مستقبل "ما بعد العمل" (مع إتاحة مزيد من الوقت أمام الترفيه بفعل الأتمتة)، يصبح من الصعب الشعور بالتفاؤل. بدلاً من رفض تقدّم الآلة، ينبغي على الغرب ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العمل على إحداث ثورة في التفكير الاجتماعي.

في ما يتعلق بالوافدين الجدد إلى السوق العالمية، سيكون من الصعب محاكاة تجربة التصنيع لدى النمور الآسيوية الأربعة، أو الاقتصادات الأوروبية والأميركية الشمالية قبلها. يتحوّل عدد كبير من (إن لم يكن معظم) البلدان النامية اقتصاداتٍ تعتمد في شكل أساسي على الخدمات من دون تطوير قطاع تصنيعي واسع – في عملية وصفها داني رودريك بـ"اضمحلال التصنيع قبل الأوان". ينطبق هذا أيضاً على بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع أنه قد يختلف من بلد إلى آخر.

لكن في شكل عام، أكثر ما ستفتقر إليه المنطقة على الأرجح، كما يقول رودريك، هو الركائز الأساسية من أجل التوصل إلى منظومة أقل أوتوقراطية. لا بد من أن نتذكّر أن بعضاً من "ركائز الديموقراطية الدائمة كانت من نتائج التصنيع المستدام: الحركة العمّالية المنظّمة، والأحزاب السياسية المنضبطة، والتنافس السياسي المنظّم حول محور اليمين واليسار. لقد ظهرت عادات الاعتدال والبحث عن تسويات انطلاقاً من تاريخ الصراعات بين العمل ورأس المال في أماكن العمل".

تهديد الاستقرار
لهذا الأمر تداعيات خطيرة تطال أيضاً "قصة النجاح" النسبية في تونس: ربما اكتسبت الحكومة الجديدة الشرعية الواردة (input legitimacy) بفضل انتخابها من الشعب، لكن هذا لا يعني تلقائياً تمتّعها بالشرعية المخرَجة (output legitimacy) لناحية تطبيق السياسات – أي على المستوى الملموس، يتعلق ذلك في شكل خاص بتأمين مزيد من الوظائف للأعداد الهائلة من الشباب العاطلين عن العمل والذين يعانون من البطالة المقنّعة.

يؤدّي انعدام الوظائف إلى خيبة الأمل التي تقود إلى عواقب يصعب تحديدها. إذا لم تتم معالجة هذه المشكلة بنجاح، أليست إحدى النتائج المحتملة ظهور طبقة دائمة وكبيرة من العاطلين عن العمل الذين سترى فيهم الدولة تهديداً مستمراً للاستقرار؟ هذا بدوره قد يقتضي فرض أنماط حكم قمعية-إقصائية.

انطلاقاً مما تقدّم، غالب الظن أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستسلك طريقاً وعراً نحو مستقبل مجهول. هذا التشاؤم الفكري علينا أن نواجهه بتفاؤل الإرادة، ما يدفعنا إلى الاعتقاد أنه مهما بلغت مأسوية النتائج القصيرة والمتوسطة الأمد لبعض الانتفاضات، قد يؤدّي اندلاعها في نهاية المطاف إلى انخراط العالم العربي بخطى ثابتة في المسار نحو الديموقراطية والحكم الرشيد.

- بول آرتس كبير المحاضرين في العلاقات الدولية في جامعة أمستردام. سمير مقدسي المدير المؤسس لمعهد الاقتصاد المالي في الجامعة الأميركية في بيروت.

"أوبن ديموكراسي"
ترجمة نسرين ناضر