التاريخ: آب ٨, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
مآلات الحراك العربي والدور النقدي للمثقف - محمد الحدّاد
أثبتت مآلات الحراك العربي (أفضل هذا التعبير على «الربيع العربي») أنّ ثمة فراغاً ثقافياً هائلاً في المجتمعات المعنية، حال دون الاستفادة من هذه الفرصة التاريخية. فقد كان يمكن للأحداث التي انطلقت شرارتها من تونس أواخر 2010 أن تدفع إلى تغيير إيجابي في المنطقة، إما في صيغة «ثورية» مع الأنظمة التي عمدت إلى رفض الإصلاح، وإما في صيغة إصلاحية معتدلة ومتزنة تستشرف المتغيرات وتستبقها بالقرارات الضرورية، بما يؤدّي في المحصلة إلى الارتقاء بالمجتمعات العربية إلى تنظيمات سياسية واقتصادية مجدّدة وملائمة. وتجاوزت آثار هذا الحراك في البداية العالم العربي ذاته، فظهرت في الغرب حركات احتجاجية ضدّ العولمة المتوحشة، بلغت حدّ محاصرة البورصات في لندن ونيويورك وغيرهما من رموز هذه العولمة. وكان هذا التوجه ضرورياً لأنّ كثيراً من الظواهر التي تُنتقد في العالم العربي هي أيضاً نتيجة النظام الاقتصادي العالمي وأزماته الخانقة.

تراجعت هذه الحركية اليوم ولم تعد تثير التفاؤل، ومن المفارقات أنّ البلدان الخمسة للثورات العربية أصبحت كلها تحت الوصاية غير المباشرة لنظام العولمة، إما وصاية الأمم المتحدة لوقف نزيف الحرب الأهلية، وإما وصاية صندوق النقد الدولي لوقف نزيف الانهيار الاقتصادي. ولم يعد الحراك العربي يثير الإلهام في العالم، بل تراجع ذكره مع بحار الدماء والجثث التي بلغت السواحل الشمالية للمتوسط. هذا مع أنّ الحراك زرع بذور الحرية والانعتاق التي ستثمر يوماً ما في نفوس عاشت طويلاً مكبّلة بالمألوف وفاقدة للأمل، وكان يمكن أن تكون النتائج أفضل وبأقلّ كلفة.

بالتأكيد، لن يكون المستقبل كالماضي، لكن هذا الحراك مثّل حتى الآن فرصة مهدورة على مستويين: مستوى الاستفادة منه لتحقيق المصالح الحقيقية للشعوب، ومستوى الانطلاق منه لربط المجتمعات العربية بالكونية ربطاً إيجابياً قائماً على التفاعل النقدي بدل الخضوع الذليل أو الرفض الأعمى، والمساهمة الفاعلة في أنسنة النظام العالمي. وبالتأمل في السنوات الطويلة والقاسية التي استغرقها الحراك حتى الآن، يتضح بالتأكيد أنّ ثمة قضيتين أساسيتين أعاقتا التغيير الإيجابي المنشود، ودفعتا بدلاً منه إلى الشعبوية والفوضى والعنف، وهما الفساد والتطرف الديني.

تثبت الأحداث وجود ثقافة فساد عميقة جدّاً في المجتمعات المعنية، وليس فقط لدى حكامها الذين أسقطتهم الثورات أو أصحاب الأموال والجاه. ثمة رغبة جامحة لدى الغالبية في اختصار المسافات والوصول إلى المبتغى بأقصر الطرق وأقلّ الجهود، يشترك في ذلك الرأسمالي الجشع والعامل البسيط. ولم يدفع مناخ الحرية النسبي إلى العمل والإبداع بمقدار ما دفع إلى توسيع قاعدة الفساد ودمقرطته، واستغلال تراجع هيبة الدولة وصرامة القانون للاعتماد المفرط على الإضرابات والاحتجاجات والمساهمة في شلّ قوة الإنتاج وتحويل الاقتصادات الوطنية إلى ضحايا تطلب رحمة خبراء اقتصاد العولمة.

في المقابل، ترعرع اقتصاد حرب، بالمعنى السلبي للكلمة، تسيطر عليه «المافيات» القوية التي تقدّمت حيثما تراجع حضور الدولة، وأصبحت تموّل الحرب الأهلية لدى بعضهم والديموقراطية لدى آخرين. فالديموقراطية أيضاً تحتاج إلى تمويل الأحزاب والجمعيات ووسائل الإعلام. وهكذا التقى الفساد بنوعيه لكي يجهض تطلعات شرائح شعبية خرجت يوماً تنادي بالحرية والكرامة.

أما التطرف الديني فدفع إلى سيطرة التيارات الدينية على مصائر الحراك، سواء منها المتشدّدة أو المعتدلة. فأما الأولى، فقدّمت للعالم كله صوراً من العنف والوحشية يصعب أن نجد مثيلاً لها في التاريخ القريب، وستظلّ هذه الصور تؤثر سلباً في رؤية الآخرين لنا وتعاملهم معنا. ولا مناص من الاعتراف بأنّ «الرأي العام» لدينا، وقد تجنّد سابقاً من المحيط إلى المحيط ليشجب سطرين وردا في محاضرة للبابا أمام أتباعه، أو رسماً كاريكاتورياً صدر في صحيفة دنماركية صغيرة، لا يبدي الحماسة والحيوية ذاتيهما لإعلان الاستهجان للوحشية اللاإنسانية التي تنكّل بالمسلمين قبل غيرهم. وفي هذه الظاهرة ما يحتاج إلى تفكير وتحليل عميقين، بعيداً عن «اللغة الخشبية» النمطية في التنديد بالإرهاب رفعاً للعتب، وعن البحث المرضي عن الأيادي الخارجية في تفسير كلّ شيء.

وثبت أيضاً من منطلق أحداث السنوات الأخيرة أنّ الإسلام السياسي «المعتدل» ليست له بدائل سياسية ولا اقتصادية، وهو في أحسن أحواله يأخذ مطيعاً بما تشير إليه الهيئات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي. ومن المضحك أنّ تيارات نشأت في الأصل على شعارات تطبيق الشريعة أصبحت اليوم تهرول لتطبيق وصفات صندوق النقد. لكنّ السيئة الكبرى للإسلام السياسي تمثلت في كونها شغلت أجيالاً من الشباب الطيب بقضايا هامشية وأغرقتها على مدى عقود في أوهام عن الماضي والآخر والمستقبل، وخدّرتها بوعود طوباوية. فلما سنحت الفرصة التاريخية للتغيير وجدت الأجيال ذاتها معزولة عن حقيقة الأوضاع وغير مسلحة لمواجهة التحديات بواقعية، فظلت مترنحة بين رؤاها الحالمة (انتشار الدعوة، التربية الأخلاقية للمجتمع، دور الطليعة المؤمنة، استعادة الخلافة الراشدة... الخ) وإكراهات الواقع كما هي، من دون مساحيق. ويرى الجميع أنّ إفراط هؤلاء في الحديث عن الدين لا يجعل المجتمعات بالضرورة أكثر تديناً، ولا الحديث عن الأخلاق يدفعها إلى مزيد من التخلق. و «التضخم» في مستوى الحديث لم يمنع العنف والوحشية، ولم يدفع الناس إلى الجدّ والعمل، ولم يقنعهم بالتضامن والرحمة بين بعضهم بعضا، ولم يقلّص التطفيف في الأسواق. إنّ تسييس الدين لدى هذه التيارات أدّى إلى تغييب الجانب الروحاني السامي فيه واختزاله ليكون أداة في الصراعات الاجتماعية على المصالح.

المآلات غير المرضية للحراك العربي سببها ثقافي أساساً. فلم تنشأ بعد ثقافة ذات حضور وتأثير واسعين، تجمع بين الرؤية الواقعية للعالم والتطلع المبدع لتغيير السائد. لذلك تردّى هذا الحراك غالباً في ما يشبه ما دعاه المؤرخون القدامى بالفتنة والهرج. لكنه يظلّ مع ذلك مؤهلاً للترشيد والتعديل، إذا قبلنا بمراجعات «موجعة»، واتخذنا المواقف الشجاعة التي تعترف بالتقصير الذاتي قبل البحث عن شماعات تعلّق عليها الخيبات.

والمثقف الثوري هو الذي يعمل في هذا الاتجاه تحديداً.