كتب سامي كليب |
«تحفونة»، كلمة تونسية تعني «الجميلة» (او المهضومة) ولعلها تجد اصلها في «تحفة»، وهذا توصيف يليق تماما بالثورة التونسية التي أطاحت نظام أكثر الديكتاتوريين العرب غموضا وانغلاقا وفسادا وقسوة. وهي ثورة لم تنته بعد أو أنها اجهضت قبل أن تصل الى كل أهدافها، فرحيل زين العابدين بن علي وزوجته والأربعين حرامي من مغارة علي بابا التونسية لم يعد بعد للثوار حقوقهم، وانما القتلى عادوا الى الطرقات.
لكن ماذا عن الثورة نفسها؟ ما هي الأسباب الحقيقية التي أدت الى اندلاعها في بلد كان آخر البلدان العربية التي يمكن أن تندلع فيها ثورة وتنجح؟ * المفارقة الأولى والطريفة في هذه الثورة، أن بن علي نفسه كان أعلن ان عام 2011 سيكون «عام الشباب»، وبالفعل كان، لكن رياح الشباب جاءت عكس ما اشتهت سفن الرئيس ونظامه، فاقتلعت الأول ولا يزال الثاني يحاول استعادة موطئ قدم... ولو بصعوبة.
* والمفارقة الثانية، ان النظام التونسي الذي خدع العالم بمقولة أن القمع والديكتاتورية والانغلاق، هي الوسائل الفضلى لتفادي المد الاسلامي الأصولي والارهاب، وانه بالمقابل جعل من تونس جنة اقتصادية وواحة رفاهية للسياح الأجانب، وان الناس فيها يعيشون رغد العيش، انكشف قبيل وبعد انهياره على حقائق مخيفة في الوضع الاقتصادي والبطالة لا بل والأمية المستشرية في جسد المجتمع الخائف.
فلو عدنا الى بعض تقارير مؤسسة «كارنيغي» الموثوقة في شكل عام، نجد أن نسبة البطالة وصلت الى 31،2 بين صفوف الشباب الذي تراوح أعمارهم بين 15 و29 في المئة، عام 2008 أي العام الذي كان النظام نفسه يفاخر بأنه حقق في خلاله انجازات اقتصادية كبيرة. وتنقل صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» عن دراسة حديثة للاتحاد العام للعمال التونسيين احصاء يؤكد ان في منطقة سيدي بوزيد نفسها التي كانت محطة مهمة في الثورة الشبابية، وصلت نسبة الأمية الى 60 في المئة.
بمعنى آخر فان أكثر من ثلث الشباب كانوا بلا عمل ونحو ثلثيهم كانوا أميين في المناطق التي ثاروا فيها، مع الاشارة الى ان 40 في المئة تقريبا من التونسيين هم من الشبان الذين تقل أعمارهم على 25 عاما، فلم يكن غريبا ان يحرق محمد البوعزيزي نفسه تاركا خلفه عائلة فقيرة وعربة خضراوات تبكي يديه الكادحتين.
وكان تقرير للبنك الدولي حذر من أن البطالة «تظل مشكلة مهمة» لخريجي مؤسسات التعليم العالي في تونس الذين «يمثلون 60 في المئة من الوافدين الجدد إلى سوق العمل، بينما كانت الاحصاءات الرسمية التونسية تكتفي بالحديث عن معدلات بطالة لا تتخطى 13 في المئة وهي معدلات قريبة جدا لما هو في الغرب. كان بن علي يطمر رأسه كالنعامة بالرمال، وزوجته واقرباؤها يطمرون انفسهم بالذهب والماس والشركات التجارية.
المفارقة الثالثة، ان الطبقة شبه الغنية في تونس والبرجوازيات الصغيرة والطبقة الوسطى من التجار ورجال الأعمال سرعان ما التحقت بالثورة معبرة بذلك عن سخطها الكامن منذ سنوات على المافيا المالية المحيطة ببن علي وزوجته والتي حرمت هذه الطبقات من مشاريع كثيرة في البلاد.
ولعل هؤلاء لعبوا دورا مهما في تأجيج الثورة بعيد اندلاعها، ذلك أن التونسيين الذين كان جزء منهم يعاني البطالة، لم يكونوا في الواقع فقراء، ووفق تقارير البنك الدولي فان 7 في المئة فقط من التونسيين يعانون الفقر فيما النمو كان بمعدل 5 في المئة سنويا، كما استكملت تونس برنامج تخصيص، وخفضت الدين العام إلى 43 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2010، وقد كان بحدود 60 في المئة عام 2001.
المفارقة الرابعة، أن أداة القمع الأولى عند بن علي والمتمثلة برجال الشرطة والامن الداخلي والحرس الرئاسي الخاص وهم في مجموعهم يبلغون نحو 155 ألف رجل، كانوا اسرع من انهار وتفكك، خصوصا ان الطلاب الذي عانوا الأمرين من هراوات هؤلاء وقمعهم عبروا عن جرأة لافتة في التصدي لهم وتحديهم الصدور العارية والاعمار الغّضَّة. أما الجيش فإن لوقوفه على الحياد، ثم تأييده للثوار وحمايتهم، قصة أخرى تجد أسبابها أصلا في العلاقة المعقدة بين رئيس يحتقر كبار الضباط ويخشاهم، ومؤسسة تعض على الجرح وسط تكرار الاهانات والتصفيات بانتظار ايام فضلى.
ولا شك أن قائد اركان الجيش الجنرال رشيد عمَّار، وحين قال لا لاطلاق النار على المتظاهرين في 24 يناير الماضي، دق المسمار الأخير في نعش نظام القمع، ويبدو أن الرجل القليل الكلام أصلا لم يكن من اولئك الذين يكنون ودا كثيرا لبن علي ولا شخصيته كانت للتفق مع شخصية الرئيس.
فالجنرال الذي درس بداية في منطقة سوس كان في عداد الدفعة الاولى من خريجي المدرسة الحربية التونسية، وكان من بين اول 15 ضابطا تم نقلهم الى فرقة المدفعية، وسرعان ما تبين انه ليس من النوع الذي يمكن أن يقبل بهضم حقوقه، حيث هدد بالاستقالة في مطلع السبعينات حين تأخرت ترقيته، وهذا ما حصل عليه، كيف لا وهو في طليعة ضباط دورته. وبعد ترقيه الى مناصب عديدة في الجيش وتوليه منصب مدير مدرسة المدفعية، ذهب لاكمال الدراسة والتدريب في فرنسا في أرقى المعاهد العسكرية، ولذلك يوصف بأنه «فرانكوفوني» الاتجاه خلافا لبن علي الذي قيل الكثير عن علاقته بالاستخبارات الاميركية وبمركز القرار في واشنطن.
واذا كان بن عمَّار تولى بعد عودته من فرنسا قيادة المدرسة التي تخرج فيها في خلال عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، الا ان ترقيته الاساس لرتبة جنرال ورئيس اركان الجيش تمت في عهد بن علي. وهو في كل سيرته برهن عن تعلق كبير بدور المؤسسة العسكرية وعن رغبة في تحييدها عن الصراعات الداخلية والحفاظ عليها كحامية للبلاد وليس للنظام او لرئيسه الفاسد.
أراد بن علي مرارا توريط الجيش في القمع الداخلي، خصوصا في ديسمبرعام 2007 ويناير عام 2008 ضد من كان يصفهم بالسلفيين والمجموعات الارهابية، وقاد تلك الحملة الدموية الجنرال علي سرياتي، قائد الحرس الجمهوري الذي اعتقل كفأر، وهو هارب عند الحدود التونسية بعدما زرع مع فريقه الفوضى ونكل بالثوار.
وغدا حين تفتح ملفات بن علي وزمرته سيكتشف العالم اسرارا كثيرة، وبينها مثلا كيف قتل 13 ضابطا ومساعد ضابط في تحطم مروحية في اواخر ابريل عام 2002 وكان بينهم قائد القوات البرية عبد العزيز سكيك، الذي خلفه الجنرال رشيد عمار بعد مقتله.
لا تزال قضية تحطم تلك المروحية الجديدة وذات القدرات التكنولوجية الحديثة عند الحدود التونسية - الجزائرية قضية غامضة، ولعل التحقيقات ستكشف يوما ان بن علي هو الذي اصدر القرار بتصفيتهم بغية اضعاف سطوة الجيش. لعب الجيش الدور المحوري في انجاح الثورة التونسية، ولعب أيضا في الخفاء دورا مهماً في التركيبة السياسية التي نشهدها اليوم، وهو في كل الاحوال كسب ود الشعب وبات قادرا على ان يكون حكما بينه وبين أي سلطة تريد في المستقبل اجهاض ثورته.
من هنا بالضبط، تصبح العيون الغربية جميعا مفتوحة على هذه المؤسسة العسكرية، ففرنسا التي تعتبر تونس دائرة تاريخيا في فلكها، ليست وحدها من يريد تعزيز العلاقات مع هذا الجيش، وانما يبدو ان الولايات المتحدة ايضا كثفت المبادرات حياله في الآونة الاخيرة وهي اصلا مدت اخطبوطها اليه منذ سنوات وحمت بن علي وتغاضت عن فساده وقمعه. وهنا نصل الى المفارقة الخامسة، فهل كان بن علي فرانكوفونيا أم عميلا اميركيا صغيرا كبر في صفوف السلطة ووصل الى رئاستها؟
قد تكون قراءة مقال السفير الفرنسي السابق والاعلامي العريق اريك رولو في «لوموند ديبلوماتيك» كبيرة الدلالات في هذا السياق، فهو يروي كيف ان بن علي وحين أصبح وزيرا للداخلية وراح يتسلق الى صفوف السلطة بمساعدة ابنة اخت بورقيبة، راح يمتنع عن استقبال المسؤولين العسكريين والسياسيين الفرنسيين، ولا يستقبل عمليا الا رولو نفسه الذي كان سفيرا لبلاده في تونس بينما يفتح الابواب لكل طارق أميركي.
ومعروف في تلك الفترة ان الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران والذي كان واسع الثقافة متقد الذكاء، لم يكن يكن احتراما كبيرا للضابط التونسي الشاب خصوصا ان العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني كان هو الآخر يحتقر بن علي ويعتبره مخبرا صغيرا محبا للمومسات المغربيات.
ويروي رولو كيف ان بن علي كان يستقبل بحفاوة كبيرة المسؤولين الاستخباراتيين الاميركيين خصوصا انه تعرف عليهم عن قرب حين تدرب وعمل فترة في الولايات المتحدة. ولا بد هنا من العودة أيضا الى وثائق «ويكيليس» والتي نشرت صحيفة «نيويورك تايمز»، جزءا منها متعلقا بتونس ورئيسها المخلوع، تروي الوثائق كم كان «الاشمئزاز» الاميركي كبيرا من فساد بن علي وعائلته.
وتقول احدى البرقيات «إن الفساد بكافة أنواعه استشرى في تونس، حيث طال الاموال والخدمات والاراضي والاملاك وحتى اليخوت، مشيرة إلى أن أبناء اخوة الرئيس التونسي صادروا يختا من رجل اعمال فرنسي عام 2006. ولكن الفساد لم يكن يمنع سفراء واشنطن وبينهم السفير الاخير في تونس روبرت جوديك من اقامة علاقات قوية مع عائلة بن علي وحضور «العشاء الفاخر الذي اقامه على شرفه محمد محمد صخر الماطيري صهر الرئيس التونسي».
وها هي واشنطن وعلى جري عادتها حين يتعلق الامر بالحفاظ على مصالحها، كانت تتعامى على كل ذلك بذريعة ان بن علي هو حليفها الابرز في المغرب العربي لصد هجمات الارهاب ووقف المد الاسلامي السلفي. وحين بدأ نظام بن علي يترنح، سارعت واشنطن للمشاركة في تشييعه، بينما بقيت فرنسا مترددة، وهو ما حصل نقيضه في تعامل الدولتين مع مصر، حيث سارعت فرنسا للشجب وترددت واشنطن، ما عكس فعليا علاقة كل من تونس ومصر بالفلكين الفرنسي والاميركي.
واما المفارقة السادسة فتمثلت بغياب الاحزاب، وقد بدا واضحا ان حركة «النهضة» الاسلامية بزعامة الشيخ راشد الغنوشي، كانت أقل ثقلا مما قيل واقل خطرا مما قيل، فالرجل الذي اعرب طيلة فترة نفيه عن انفتاح لافت وشجب للارهاب، التحق بالثورة بعيد اندلاعها كما فعلت الاحزاب الاخرى، وربما يكون له دور في المستقبل رغم كل الآلة السياسية والدعائية والمالية التي ستوظف ضده خشية انتعاش التيار الاسلامي في المغرب العربي، اما الاحزاب الاخرى فكانت اما مشلولة او مجهرية او فاقدة للشعبية الحقيقية. الطلاب والعاطلون عن العملهم هم وحدهم من قاد التظاهرة، لا بل ان الاتحاد العامل للشغل لم يقرر المضي قدما الا بعدما تبين ان الامور باتت تتجه فعلا نحو اسقاط بن علي، وكثيرون من قادة الاتحاد كانوا أصلا بيادق بيد بن علي وزمرته.
وهذا بحد ذاته التحدي الكبير حاليا، فعودة القتلى والجرحى الى شوارع تونس، تؤكد ان الثورة اجهضت قبل استكمالها، ولا بد من تصحيح الخلل الذي حصل. صحيح ان حزب بن علي أي «التجمع الدستوري الديموقراطي» توقف عن النشاط بقرار من وزير الداخلية منعا لوقوع اعمال عنف جديدة، وصحيح أيضا ان مافيا النظام تفككت، لكن الأكيد ان الاخطبوط الامني والمصلحي الذي بناه الديكتاتور المخلوع على مدى اكثر من ثلاثين عاما بحاجة الى انتباه كبير لاسيما ان المصالح الدولية في تونس قد لا تلتقي تماما مع من اطلق الشرارات الاولى للثورة.
وأما المفارقة الاخيرة، فتكمن في دور الاعلام التونسي المحلي والعربي والعالمي، فاذا كان الاعلام المحلي تدجن لاكثر من ربع قرن وباتت وظيفته تمجيد النظام ومشاريعه، فلماذا صمت الاعلام العربي والعالمي، لا بد من البحث عن الدور الكبير الذي لعبته «وكالة الاتصال الخارجي» في توزيع الاعلانات وتكثيف الاشتراكات ورشوة الاعلاميين العرب لتمجيد بن علي، فشارك الاعلام العربي في الجريمة، كما ان آلة الضغوط السياسية والامنية جعلت الدول الغربية تتعامى عن الفساد والقمع والديكتاتورية... دروس كبيرة قدمتها الثورة التونسية «التحفونة» ولعل ثورات اخرى ستتحفنا بالكثير... من الصعب توقع أي تراجع بعد اليوم في نبض الشارع العربي.
|