الأثنين ٢٣ - ٦ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: آذار ١, ٢٠١٢
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
تطبيق الديموقراطية في المجتمعات الاسلامية ممكن وضروري وحتمي - ريشار قيومجيان

أن يتحدث المسيحيون بلسان أقلية خائفة وينظروا الى الربيع العربي على أنه ربيع اصولي، انما يعكس خوفاً غير مبرر يذهب بالمسيحيين الى التقوقع والضياع في حين أن وقوفهم الى جانب مواطنيهم في معركة اسقاط انظمة الاستبداد يعيد اليهم المبادرة ويفتح حواراً صريحاً مع كل التيارات بما فيها الاسلامية.

 

منذ انطلاق شرارة الإنتفاضة الشعبية لتغيير النظام في تونس أوائل العام الفائت، يشهد النظام السياسي العربي تحولاً بنيوياً تاريخياً يطاول مفاهيم الدولة والسلطة ويعطيهما شكلاً ومضموناً جديدين لم تعرفه المجتمعات العربية والإسلامية منذ تدمير بغداد وسقوط نظام الخلافة العباسية على أيدي المغول العام 1258. ففي وقت شهدت فيه أوروبا والغرب تحرراً سياسياً وفكرياً ودينياً متدرجاً من حقبة القرون الوسطى المظلمة (حكم الإقطاع ورجال الدين) ابتداء بسلام وستفاليا Peace of Westphalia بعد الحروب الدينية، والذي أرسى مبدأ الوطن – الأمة Nation-State، مروراً بعصري التنوير والنهضة وصولاً الى الثورة الصناعية واكتشاف أميركا والعالم الجديد، كان التأثير المغولي-العثماني الجامد فكرياً وثقافياً والذي استمر زهاء ستة قرون يرخي بظلاله على البيئة العربية والمشرقية ويعوّق التطور في اتجاه فكرة الدولة العصرية المدنية. وللأمانة التاريخية، لا يمكن اغفال تأثير طبيعة تكوين المجتمعات العربية الدينية والقبلية والثقافية، اضافة الى تأثير حقبة الاستعمار الغربي والتنافس الأوروبي على السيطرة والنفوذ بالقوة على كامل حوض المتوسط وافريقيا لضمان خط المصالح التجارية مع شرق آسيا.


تأسس معظم الكيانات السياسية العربية بشكلها وحدودها الحالية ونالت الاعتراف الدولي في ظل حربين كونيتين وفي ظل الحرب الباردة بين معسكرين وإيديولوجيتين ونظامين سياسي واقتصادي مختلفين. وكان لخسارة فلسطين ونشوء دولة اسرائيل وخسارة الحروب العسكرية المتتالية معها انعكاسات ديموغرافية وجيو - سياسية ونفسية كبيرة طالت الشعور القومي وساهمت في تطورالأوضاع والأنظمة والأحداث في أكثر من بلد عربي. اذاً، من منظار تاريخي يمكن القول أنه لم يتسنَّ للشعوب العربية فرصة للتحرر السياسي-الاجتماعي، ولعل كل ما ذكرناه آنفاً كان سبباً مساهما ًفي نشوء أنظمة الحزب الواحد والدول البوليسية حتى ذهب الأمر ببعض الباحثين الغربيين لاستنتاج أن الدين الاسلامي والسوسيولوجيا العربية هما على تناقض فلسفي مع مفهومي الحرية والديموقراطية وبالتالي لا يمكن أن ينتجا إلا أنظمة أوتوقراطية - استبدادية أو دينية - شمولية.


واقع الأمر أنه تارة بحجة مواجهة "العدو الصهيوني والإمبريالية الغربية والمشاريع الأميركية" وتارة اخرى بحجة ضرب "الإرهاب الإسلامي"، كانت الأنظمة العربية تفتك بشعوبها وتضطهد النخب الأكاديمية والسياسية والإعلامية والفكرية، وما شعارات الصمود والتصدي والممانعة والمقاومة سوى عيّنة من أكاذيب وبروباغاندا سخيفة بائدة. لقد أدّى بروز تنظيم "القاعدة" بزعامة اسامة بن لادن والتفجيرات التي شهدتها عواصم الغرب لا سيما نيويورك وباريس ولندن ومدريد الى "فوبيا إسلامية" سياسية غير مسبوقة شكّلت "الشحمة" الدسمة على فطيرة الأنظمة، مما أعطاها غطاءً دولياً وسمح لها باستغلال فترة طويلة لمزاولة القمع والتعسّف وإرساء ليس أنظمة الحزب الواحد فحسب بل وبسط النفوذ المطلق للشخص الواحد والعائلة الواحدة.


لست في معرض مناقشة أيديولوجية الإسلام السياسي من إبن تيميّة الى الفكر الوهابي وصولاً الى حسن البنّا وابو الأعلى المودودي وسيّد قطب والإمام الخميني، ولا البحث في امكان ترجمتها سياسياً ودستورياً واقتصادياً وبالتالي اعتمادها كنظام سياسي. وبغض النظر عن النقاش الدائر حول اعتبار الإسلام ديناً ودولة ونظاماً كلياً يطاول كل شؤون الحياة، وحول علاقة الدين بتحديات العصر والعولمة والحداثة، نورد بعض الملاحظات علّها تساهم مساهمة متواضعة في رسم نظام عربي حر ومتحرر:


-1 ليست الديموقراطية مفهوماً غربياً بحتاً ولا مبدأ عقائدياً مسيحياً على تناقض مع الفكر العربي والدين الإسلامي. فمنذ عصر ارسطو وافلاطون وصولاً الى جايمس ماديسون وتوماس جفرسون، الديموقراطية هي سيادة الشعب ومشاركة الناس في إدارة شؤونهم واختيار ممثليهم عبر إنتخابات حرة ونزيهة. هي التناوب السلمي على السلطة وحق الإنتقاد والمساءلة والمحاسبة واحترام سلطة القانون والحريات الفردية والعامة والتزام الشرعة العالمية لحقوق الإنسان. الديموقراطية تعني المساواة أمام القانون وفي توفير فرص العمل والتعليم والنمو... إن تطبيق الديموقراطية في المجتمعات الإسلامية أكدته الممارسة في أكثر من بلد "إسلامي" ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: تركيا – اندونيسا – باكستان – بنغلادش - السنغال، واعتمادها في البيئة العربية بات أمراً ممكناً وضرورياً وحتمياً.


-2 الخيار أمام الشعوب العربية، ليس بين أنظمة إستبدادية وأنظمة دينية-أصولية. النظام الديموقراطي الدستوري الحر، هو الضامن الأساس لآلية إنتقال السلطة ولعدم تحوّل الأكثرية المنتخَبة ديكتاتورية إلهية أبدية كما حصل في إيران عقب وصول الثورة الإسلامية الى الحكم. إن فوز "الإسلاميين" في الإنتخابات يُحتم عليهم الإلتزام بقواعد اللعبة الديموقراطية وتطبيق رؤيتهم السياسية - الإجتماعية من ضمن النظام وليس استبداله بنظام آخر وخير نموذج لهم أندونيسيا وتركيا واخيراً تونس.


-3 لا يُمكن تطبيق الشريعة الإسلامية على كل شرائح الشعب في المجتمعات المتعددة دينياً وثقافياً وإلا تصبح قهراً وذميّة. خيار الدولة المدنية هو الذي يؤمّن المساواة والعدالة. تحدّي تطبيق الشريعة سياسياً وإقتصادياً في الدول الإسلامية الخالصة إنما هو خيار يأخذه المواطنون المسلمون بكامل وعيهم وحريتهم وإدراكهم.


-4 المسيحيون في المشرق العربي كانوا في طليعة حركات التحرر والإستقلال. هم رواد النهضة العربية وحاملو لواء قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ومفاهيم العلمانية والقومية والحداثة. أخذ الشرق قدسيته من أديرتهم وكنائسهم فطبعوه بتاريخهم وحضورهم وعطاءاتهم. وعلينا أن لا ننسى ذلك المجهود الخيّر الذي بذله المسيحيون في المحافظة على سلامة اللغة العربية، لغة القرآن الكريم ابّان الحكم العثماني الإسلامي الذي سعى بكل جهد الى استبدال اللغة العربية الفصحى باللغة التركية، فقام النسّاك والرهبان في الأديرة والصوامع المسيحية بالمحافظة على لغة القرآن الكريم بدراستها وإجراء الأبحاث العلمية اللغوية والأدبية لضمان بقائها وخلودها. أن يتحدّث المسيحيون بلسان أقليّة خائفة وينظروا الى الربيع العربي على أنه ربيع أصولي، إنما يعكس خوفا غير مبرر يذهب بالمسيحيين الى التقوقع والضياع في حين أن وقوفهم الى جانب مواطنيهم في معركة إسقاط أنظمة الإستبداد يعيد لهم المبادرة ويفتح حوارا صريحاً مع كل التيارات بما فيها الإسلامية ويؤدي الى تفاهم متبادل ووعي للهواجس المشتركة على الواقع والمصير.


-5 وحدها الديموقراطية هي الحل والأمل الوحيد في انبثاق مجتمعات عربية متحررة ومنفتحة على الحداثة. يقوم المستقبل العربي على مبادىء التعددية وقبول الآخر والإنفتاح والتسامح أو لا يقوم. إن القيم والمعايير الدينية السامية هي حافز لإرساء أنظمة مدنية تحترم حرية الفرد وحقوقه من خلال المساواة في المواطنة والإنتماء بغض النظر عن الجنس والعقيدة والدين، وليست سبباً الى أن نعود بمجتمعاتنا قروناً الى الوراء عبر نظم رجعية بائدة. إن الدين لله والوطن للجميع.


 



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة