الجمعه ٢٠ - ٦ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: آذار ٦, ٢٠١٢
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
"الربيع العربي" والحضور المسيحي في الشرق - فريد الخازن

في زمن التحولات الكبرى تبرز تساؤلات حول مسائل مرتبطة بالدولة والمجتمع. انه الربيع العربي الآتي بلا مقدمات، وهو يطرح تساؤلات حول مسائل عديدة، ومنها مسألة الحضور المسيحي في عالم عربي قلق ومضطرب، قبل هبوب رياح التغيير وبعدها.

 

النظام الاقليمي العربي، الذي تكوّن في اطار الدولة الحديثة وشهد مراحل صعود وهبوط، لم يكن للشعوب العربية دور حاسم في تقرير مصيره في العقود الثلاثة او الاربعة الاخيرة. فبعد الاستقلال، جاءت الانظمة المعسكرة الى السلطة فسخرتها لمآربها وسعت الى تأبيدها عبر عملية توريث منظمة. فاذا كانت حال الاكثرية الصامتة من شعوب المنطقة على هذا المنوال، فكم بالحري حال المسيحيين، وهم في الاساس في موقع هامشي في الشأن السياسي.


في مرحلة نشوء الدولة الحديثة، بعد انهيار السلطنة العثمانية وقبل ان يُمسك الحاكم السلطة في مفاصلها كافة، كان الشعب ممثَلا بنخب سياسية اتت الى الحكم عبر الانتخاب في زمن الليبرالية العربية، اي قبل بروز الايديولوجيا والراديكالية القومية. وكان للمسيحيين موقعهم المؤثر في حركة هذه النخب في السياسة والثقافة والصحافة لاسيما في مصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين. وفي مرحلة ما بعد الاستقلال انحصر القرار بالانظمة الحاكمة، فوضعت الانظمة في عدد من الدول العربية الدين جانبا وقمعت مريديه، وفي بعض الحالات شاركت الاحزاب الاسلامية في الحكم لكن بضوابط وحدود رسمتها الدولة.


بايجاز، حققت الدولة السلطوية، قبل الربيع العربي، الاستقرار لكن على حساب الحريات. ففي حين ان اوضاع المسيحيين اختلفت بين دولة واخرى، الا انهم لم يكونوا في موقع اتخاذ القرار في الشأن السياسي ولا في موقع تعطيله. وعلى رغم تنامي الاسلمة في المجتمع، الا ان الدولة لم تكن اسلامية، والقضايا الخلافية تمحورت حول اصلاح النظام السياسي وتحسين الاوضاع الاقتصادية.


الحالة العربية لم تكن دائما استثنائية بالمقارنة مع دول العالم الثالث حيث أتى العسكر الى السلطة واخذت الايديولوجيات الشمولية مداها، الا ان التحول الذي حصل بعد انتهاء الحرب الباردة وضع النظام الاقليمي العربي في حالة مغايرة. هكذا غاب العرب عن مسار التحولات الديموقراطية التي شهدتها دول عديدة في العقدين الاخيرين. ولقد حصلت محاولات تغيير ديموقراطي، خصوصا في بعض الانظمة الملكية في الاردن والمغرب والكويت، الا ان الجمهوريات العربية استطاعت ان تحصن مواقعها بأساليب الترهيب والترغيب المعهودة.


وعلى رغم حالة الجمود التي سادت المنطقة، هبت رياح التغيير دفعة واحدة وليس عن سابق تصور او تصميم. واللافت ان التغيير انطلق من تونس، وهي من الدول الأكثر تمرساً في الضبط البوليسي في المنطقة والأكثر ابتعاداً عن "قضاياها المصيرية". والمفارقة انه ربيع عربي لم تساهم في صنعه نكبة أو نكسة، ولم يأتِ بسبب ازمات دولية، فلا حروب باردة او ساخنة اليوم. انه، بكلام آخر، نتاج عربي صرف نابع من واقع مأزوم.


لقد تبدلت اولويات الشعوب العربية وهمومها من جيل الى جيل، وها نحن اليوم نكتشف خيارات عبّر عنها الشعب في الساحات اولا، ومن ثم في صناديق الاقتراع. وما نتائج الانتخابات التي جرت اخيرا في مصر وتونس سوى التعبير الصادق عن هذه الخيارات وتداعياتها على المستويات كافة. الا ان الديموقراطية ليست حصرا عملية انتخابية واقتراع حر، بل نظام قيَم متكامل يستند الى مبادﺉ يجسدها الاعلان العالمي لحقوق الانسان القائم بدوره على المساواة وعلى احترام حقوق الفرد والجماعات، فأين العالم العربي من هذه القيَم في ظل التحولات الكبرى التي نشهدها اليوم؟  لم تعد التحديات التي تواجه العالم العربي اليوم تتمحور حول مسائل ولّى زمنها، ومنها كيان الدولة وديمومته، والثورة وانجازاتها، و"المصير المشترك" بعد ان تراجع الاهتمام بالنزاع العربي- الاسرائيلي، بل ثمة قضية مركزية اليوم عنوانها موقع الدين من الدولة والمجتمع، وهذا بالذات مصدر قلق لمن لا يرى ان للدولة هوية دينية، لاسيما أن وسائل الحكم باتت مفاهيم عالمية تعتمدها الشعوب من خلفيات تاريخية ودينية وثقافية مختلفة. وهذا القلق بالذات يتشارك به المسيحيون والمسلمون، وان كان الهم المسيحي يغلب عليه المنحى الوجودي وليس فقط المطلبي.


 ليست المرة الاولى التي تطرح فيها تساؤلات حول موقع الاسلام في الدولة والمجتمع. تساؤلات مشابهة شغلت بال مفكرين كبار بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، دولة الخلافة الاسلامية، وفي ما بعد في مرحلة الاستقلال. الا ان طبيعة الدول تغيرت اليوم وكذلك مجتمعاتها، فحلّت الدولة مكان الامبراطورية، وبرزت حركات اسلامية منظمة في اطار الدولة الحديثة، وحلت العولمة وتكنولوجيا المعلومات مكان عصر النهضة. والغرب اليوم لم يعد النموذج المتقدم، كما رآه الطهطاوي ومعاصروه من الكتاب والمفكرين، ولم يعد يشكل حافزا للتغيير في السياق الاسلامي، كما نادى الكواكبي ومحمد عبده والرافعي وسواهم، بل بات، بالنسبة الى البعض، مصدر الخطر المباشر على الامة.


العالم العربي والاسلامي في ظل الدولة المعاصرة في حراك لا حدود له ولا قواعد جامعة تضبطه، وكأن في كل دولة امة، وسيمرّ وقت طويل قبل ان يجد له نقطة ارتكاز ثابتة. انه ايضا يواجه اختبارات جديدة في زمن مختلف عن زمن الحداثة في مطلع القرن العشرين لاسيما ان للاسلام اليوم حضورا فاعلا في العالم كله لا عبر الفتوحات بل في ظل العولمة وفي اطار الدولة الحديثة. وهو ايضا يواجه تحديات غير مسبوقة لجهة الشرخ المذهبي العميق، وتحديدا على مستوى السلطة السياسية داخل الدول وفي ما بينها. اما ساحة المواجهة الابرز لهذا الشرخ فهي العالم العربي بالذات.


مسألة اخرى لا تقل اهمية تخص التجارب الجديدة التي تشهدها بعض دول المنطقة في زمن الربيع العربي، وهي تجارب في ممارسة الحكم لم تختبرها المجتمعات العربية، فلا نموذج ديموقراطياً يحتذى به ولا قواعد واضحة ترعى المرحلة الانتقالية، خصوصا مع بروز قوى سياسية جديدة، وتحديدا الاسلام السلفي المنظم، ما يجعل التنافس يميل الى التطرف اكثر منه الى الاعتدال ضمن الصف الاسلامي الواحد.


حالة اخرى لافتة عبّر عنها الازهر في وثائق ثلاث، ومنها وثيقة تناولت موضوع الحريات العامة دعا فيها الى احترام "حرية العقيدة" و"حرية الرأي والتعبير". وهذه الوثيقة تشكل خطوة متقدمة وجريئة نحو تجديد الفكر الاسلامي والاجتهاد في مفهوم الحرية من دون اغفال ما بات مسلما به في الفكر الانساني العالمي. انها بارقة أمل علّها تثمر على ارض الواقع. ولكي تثمر لابد ان تكون في موقع التأثير في القرار السياسي.


لعل ابرز ما يواجهه العالم العربي اليوم ان "ربيعهم" لا يشبه في مضامينه وهمومه واهدافه اي "ربيع" آخر، اذ ليس ثمة قاطرة تشدّ الانظمة في العالم العربي في اتجاه الديموقراطية، مثلما كانت عليه الحال في اوروبا الغربية التي شكلت القاطرة الديموقراطية بالنسبة الى دول اوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. كما ان التحولات في اتجاه الديموقراطية في دول العالم، بدءا بأميركا اللاتينية في ثمانينات القرن المنصرم، مرورا بدول آسيوية وافريقية، وصولا الى اوروبا الشرقية، لم يكن الدين محركها الا بمقدار مساهمته في انهاء الاستبداد القائم وليس لأنه يطرح نفسه مكوناً اساسياً في السلطة البديلة. فاذا كان الربيع العربي مرادفا لتحرر الشعوب من استبداد الحاكم وظلمه، فلا يمكن ان يصبح مصدر ظلم واستبداد لأي من مكونات المجتمع، مسيحيين أو مسلمين، اقلية أو اكثرية. الديمقراطية، بمفهوم القرن الحادي والعشرين، هي حكم الاكثرية للاقلية، لكن عندما يكون الدين على الحياد وفي ظل دولة تحكمها قوانين مدنية لادينية.


لم يشارك المسيحيون في صنع الانظمة السلطوية بل شاركوا مواطنيهم في الحداثة، منذ عصر النهضة الى اليوم، وفي الدفاع عن القضايا الوطنية والقومية الكبرى، وهم ليسوا بحاجة الى شهادة حسن سلوك من احد. ففي حين ان همومهم واولوياتهم في بلدانهم ليست متشابهة، الا ان هاجسا واحدا يجمعهم الا وهو التجربة الجديدة التي يخوضها العالم العربي في ادارة الدولة في ظل اكثرية حاكمة محور اهتمامها موقع الدين في شؤون الدنيا. وقلق المسيحيين هو بالدرجة الاولى من المجهول، فلا هم يؤيدون الانظمة الاستبدادية ولا يهوون المغامرة، لاسيما ان المخاطر المحدقة بهم كثيرة، ومنها التراجع الديموغرافي والهجرة.


والسؤال هنا، ماذا يجب ان يفعل المسيحيون ليواكبوا تحولات العالم العربي ويتأقلموا مع تداعياتها، فلا يكونوا الحلقة الاضعف في زمن المغالاة والفوضى؟ وما المطلوب منهم لكي يتساووا في الحقوق والواجبات في دولهم ومع ابناء مجتمعاتهم؟ هل المطلوب تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في مصر؟ أم تمتين الوحدة الوطنية وتثبيت الامن في العراق؟ ام ان المطلوب ان يضعوا حدا لتهويد القدس ويُبعدوا سوريا عن شبح الحرب الاهلية؟ بكلام آخر، هل المطلوب من المسيحيين ان يتخلوا عن نفوذ وسلطة لا يملكونها وعن تأثير في مسار الحدث لا يتجاوز امكانية حماية الذات، لكي تستقيم اوضاع العالم العربي فينالوا حقوقهم كمواطنين صالحين، بعد ان بات طموحهم الا تستهدف كنائسهم في العراق، وان يحافظوا على حد ادنى من الوجود الفعلي في فلسطين، وان ينعموا بالمساواة في ظل قوانين تحترمهم في المواطنة في مصر، والا يصيبهم مكروه، هم وابناء بلدهم، من جراء دوامة العنف في سوريا؟


العالم العربي والاسلامي هو ايضا عالم مسيحيي هذا الشرق. الا انه عالم يدخل الآن حقبة "بداية التاريخ"، محورها تحديد موقع الاسلام السياسي في شؤون الحكم وممارسة السلطة. وهذا الامر ليس من اختصاص المسيحيين بل هو مسؤولية المسلمين، وهذا الواقع بالذات يشكل الاختبار الحقيقي لمآل الربيع العربي تجاه انفسهم وتجاه الآخرين. وما يريده المسيحيون لانفسهم يريدونه ايضا للمسلمين، وهم شركاؤهم  في الوطن والحضارة والتاريخ، والاهم في صنع مستقبل افضل لابنائهم يستلهم مبادﺉ الاديان السماوية ويترك ممارسة شؤون الحكم الى الناس، ابناء الله الواحد، مسلمين ومسيحيين.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة