إنها كالمعجزة تفجرت من كل الأمكنة. بلا مقدمات تذكر. ولا إشارات. هكذا دخلت الانتفاضة المصرية بلا نوافذ ولا أبواب. كأنها طلعت من نفسها. كالمعجزة، أي كالمستحيل. صعقت الجميع: النظام، والأحزاب والتنظيمات. قالوا إنها تظاهرة عابرة في اليوم الأول. ثم قالوا إنها غير جدية في اليوم الثاني. ثم قالوا إنها بلا هوية، أي بلا جذور في اليوم الثالث. لكن في الأيام التالية، وإزاء تناميها وتصاعد الاعتصامات في القاهرة، والسويس والإسكندرية... قررت الأحزاب من "الإخوان المسلمين" إلى "كفاية"، إلى "الأحرار" إلى "الغد"، إلى "الناصريين" و"الكرامة" .."والتجمع". أن يلتحقوا بالانتفاضة قبل فوات الأوان. فالحركة الشبابية بدأت تعزز حضورها وتظهّر ملامحها: ظاهرة جديدة لا تنتمي لا إلى الأيديولوجيا. ولا إلى "الإسلاموية" ولا إلى المسيحية ولا إلى الناصرية ولا إلى اليسارية ولا إلى جذر من جذور "الثورة" التي انطلقت في الخمسينات مع ثورة يوليو.. وامتداداتها في بعض الأنظمة الانقلابية تحت شعار الاشتراكية وتحرير فلسطين ومناصرة الجماهير والمساواة ومعاداة الإمبريالية.. كل هذه الشعارات التي أدت إلى ما أدت إليه من هزائم ومن تحويل الحكم ملكية توريثية للعائلة "المقدسة" وللأبناء البررة (العباقرة! الذين خلقهم الله وكسر القالب!) وتحويل خيرات البلد ملكيات خصوصية مفتوحة للنهب والسرقة والفساد... من دون أن ننسى اللجوء إلى القمع والقتل والسجن والتعذيب والنفي والإرهاب والترهيب.فالانتفاضة المصرية هي انتفاضة "اللامنتمين" من شرائح شبابية وغير شبابية، احتجاجية من حملة الشهادات الجامعية والمهنية لا يجدون لا عملاً ولا معيناً؛ إنها "الطبقة المتوسطة" التي تبحث عن دورها. الطبقة الشبابية الجامعة لم تلجأ لا إلى شعارات البروليتاريا، والفلاحين والجماهير.. فلنقل إنها انتفاضة المدينة على نفسها.
انتفاضة المجتمع المدني المفتوح على التكنولوجيات الحديثة، ووسائل الاتصالات، والعولمة، والحداثة والانفتاح، بمعنى آخر انتفاضة اجتماعية سبقت الانتفاضة السياسية، لتتواكب معها على امتداد استمرارها. وعندما أقول اجتماعية فيعني تجاوزاً لكل الأدوات "الأصولية" والأمنية والعسكرية والبيروقراطية والقمعية التي تثاقلت على كواهلهم، وحجبت أصواتهم أكثر من أربعة عقود. وهنا أقول إن هذا يفضي إلى اخذ العنصر النفسي بالاعتبار. فالناس عانوا (في كل أنظمة دكتاتورية الحزب الواحد) الإذلال، والترهيب والإهانة والخوف والفرض والإملاء وطعن كراماتهم، من خلال تهميشهم ورذلهم واحتقارهم. والاحتقار عندما يمارس على شعب فقد يكون من العوامل المُفجّرة للثأر للكرامة، وللروح الإنسانية. انتفضوا مطالبين بمجتمع يحترمهم ويُفسح مجالاً لهم، ويمنحهم دوراً فاعلاً أي ان يشعرهم بمواطنيتهم وبفرديتهم ونوازعهم وأزماتهم ووجودهم. كأنها انتفاضة "نكون أو لا نكون" من حيث الوجود الإنساني، والتاريخي والمجتمعي.
ولهذا فإن هؤلاء "اللامنتمين" كأنما، عندما "تحرروا" من الانتماءات السائدة والبائدة "كالأصوليات الدينية" والذرائع القومية والأمن مقابل الحرية والأمن مقابل اللقمة والأمن مقابل الحياة.. وجدوا في "لا انتمائهم" هوية مفتوحة، غير مقننة، وغير جاهزة، وغير أبدية! ولهذا عندما أطلق خامنئي، مرشد الثورة الإيرانية (الشجاع والعادل والحكيم! الخ) صرخته المدوية بغية محاولة مصادرة هذه الانتفاضة تحت شعار سياسي "إسلامي" رد عليه المعتصمون بأنهم متحررون منه ومن كل الأنظمة والأحزاب الإرشادية، ومن كل دكتاتوريات الحزب الواحد.. وكان ردهم بليغاً لا لمرشد الثورة الإيرانية الذي يهلل للتظاهرات في مصر وتونس، ويمنع أكثرية الشعب الإيراني المعارض لولايته ولنظامه من النزول في مظاهره تأييداً لانتفاضتي تونس ومصر. وعندما اتصلتُ ببعض القيادات الشبابية في ميدان التحرير مستفسراً أجابوني ساخرين حتى القهقهة من محاولة حشر النظام الإيراني أنفه في انتفاضة موجهة ضد طبيعته وطبيعة أنظمة الحزب الدكتاتوري الواحد بالقدر نفسه الذي تتوجه به إلى نظام بلادها. فهل هي شيزوفرانيا عند أهل النظام الإيراني وعند حزب الله في لبنان (فرع ولاية الفقيه في بلاد الأرز)، وعند بتوع 8 آذار، وفلول النظام الأمني المشترك. أهو فصام الشخصية عند هؤلاء الإعلاميين الذين خوّنوا ثورة الأرز السلمية التي نادت بالسيادة والحرية والديموقراطية.. والعدالة وها هم وبكل فجور وفحش يحيون شباناً هم نقيضهم التاريخي (والإنساني: الشبان عندهم كرامة! فهل عند هؤلاء شيء من هذا القبيل، اليوم، وعلى امتداد 50 عاماً من تغطية كل جرائم وانتهاكات الوصايات في لبنان). فهؤلاء الشبان ليسوا لا خريجي أقبية الأجهزة، ولا صروح السفارات ولا طلاب المعاهد الإجرامية والاغتيالات والقتل والعمالة، إنهم ردّ رائع على هذه الأحزاب التافهة، التي جعلت "مقدسها" وسيلة للترهيب، وللإلغاء.
ولهذا يمكن ان نعقد مقارنة بين ما عاناه الشعب التونسي فانتفض على الدكتاتور بن علي، وبين ما عاناه الناس في مصر فانتفضوا، وبين ما عاناه اللبنانيون على امتداد عهود الوصايات وآخرها النظام الأمني المشترك المبارك من 8 آذار وإيران (عبر حزب الله) وبين ما يعانيه الشعب العربي في بعض أنظمة دكتاتوريات الحزب، والتوريث والمصادرة تحت شعار "العائلة المقدسة". فالمشترك، واحد تقريباً بين الناس والمشترك واحد تقريباً بين هؤلاء الطغاة الدينوصوريين الرازحين بقوة المخابرات والعسكر على كواهل الناس. ولهذا بدت الانتفاضات متشابهة إلى حد كبير بين ما جرى في ثورة الأرز، وانتفاضة الياسمين في تونس، وقبلها الانتفاضة الخضراء على نظام ولاية الفقيه وصولاً إلى الانتفاضة البيضاء: تحركات مليونية سلمية قوتها في وعيها الحاد، وفي ثأرها لكرامتها وعزتها وإنسانيتها، وحلمها بوطن متعدد، ديموقراطي وبمجتمع مدني بأدواته الديموقراطية. انها الشعوب التي همشتها هذه الأنظمة الاستبدادية وشيأًَّتها ومرمغتها بالوحل وبالذل وبالجوع وبالفاقة؛ إنها الفئات الشبابية التي تخطت "اللغات الخشبية" والثورات القديمة البائدة والأيديولوجيات المتهرّئة والأصوليات القاتلة والهويات المغلقة. هذه هي مشتركات الانتفاضات الأربع المتوازية والمتفاعلة والمتعاقبة. ولهذا عندما بحثنا مثلاً عن الأحزاب "الأصولية" في ميدان التحرير... اكتشفنا أثراً متضائلاً لها، بعدما كان "يُظن" إنها الفئات المؤهلة وحدها لتغيير الأمور، وقلبها لقوة تنظيماتها التاريخية وحضورها "الانتخابي". وعندما بحثنا عن الأحزاب التاريخية واليسارية والليبرالية واليمينية والقومية وجدنا إنها لم تصل بعد لا إلى ميدان التحرير ولا إلى الإسكندرية ولا إلى السويس... إذاً، الانتفاضة البيضاء، ما زالت حتى الآن بيضاء ونقية لم تلوثها لا تدخلات نظام ولاية الفقيه في إيران قامع أكثرية شعبه بالحديد والنار.. والإرشاد الإلهي! ولا محاولة بعض الأنظمة العربية التوريثية والدكتاتورية بمصادرة ما حققته الانتفاضة؛
لكن ومن خلال متابعاتنا الأخيرة لمجريات الأمور ثمة أمور أساسية إما حدثت أو هي قيد الحدوث: 1 انحناء الرئيس حسني مبارك للعديد من المطالب الشبابية. 2 تفويض صلاحياته الدستورية لنائبه عمر سليمان. 3- إعلان البيان رقم واحد والثاني للقوات المسلحة. 4 خروج التظاهرات إلى ميادين وأمكنة رمزية حكومية وحساسة كمجلس الشعب والحكومة ومجمعات أخرى. 5 رفض المعتصمين ما جاء في بياني مبارك الأخير وعمر سليمان. 6 دخول قطاعات اجتماعية ونقابية على خط المطالب الشبابية وقد يتنوع هذا الدخول ويسجل إضافة أخرى وبعداً آخر إلى الانتفاضة البيضاء. وهذا يطرح تساؤلات وربما مخاوف:
هل يعني أن البيان رقم واحد مؤشر لتدخل القوات المسلحة بحركة انقلابية على الانتفاضة مقابل ما سمي "العصيان المدني" الذي أعلنه بعض المعتصمين قبل يومين من خلال توسع دائرة التظاهرات والاعتصامات إلى المقارّ الحكومية، ليكون القصر الجمهوري أحد هذه الأهداف وبالفعل لقد قصدوا القصر الجمهوري في القاهرة.
وهل يمكن أن يؤدي هذا العصيان (إذا تمّ) إلى عنف تسقط فيه مصر في حمام دم، فتكون اليد الطولى فيه للجيش (كما حدث في تونس، وطهران) بل هل يمكن أن يكون هناك استدراج لانتفاضة الشباب للاشتباك مع القوات المسلحة، وعندها يصدر ربما البيان ثلاثة على الطريقة المعهودة للانقلابات العسكرية. وهل في مقدور المنتفضين ان يتحملوا مثل هذه التداعيات، وهل، يُقدم "الإخوان المسلمون" والأحزاب الهامشية الأخرى، على استغلال هذا الوضع لمصادرة الانتفاضة، او جعلها ورقة للمساومة، او ركوبها لتحويل النظام المصري إلى نظام إسلامي أصولي؟ وعندها قد تكبر هذه الانتفاضة، وتصبح بتواطؤ قوى المعارضة التي أشرت إليها (الأخوان، والأحزاب الأخرى..) مع القوى المهيمنة، لضرب هذه الظاهرة الشبابية غير المسبوقة في مصر؟
صحيح أن على المنتفضين أن يصروا على مطالبهم مطالبين بضمانات ويستغلوا هذه الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر، وصحيح أن يعتبر هؤلاء أن أهل السلطة ليسوا "أهل ثقة" وصحيح انهم بقوا على مواقفهم بل صعّدوها، بعد تنازلات من النظام وصحيح إنهم يتمسكون بالسقوف العالية: تغيير النظام برمته، عبر رفض ما قد تحقق كثمن مقابل "عودتهم إلى بيوتهم وأعمالهم"،... كل هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضاً وبالتوازي اعتبار أن المواجهة بالعصيان المدني وبالمشاركة مع الفئات الأخرى، لا سيما المطلبية والنقابية التي دخلت على الخط، وربما قطاعات أخرى، قد تُفقد الانتفاضة مع تصاعد الأحداث وتعدّد الأطراف سيطرتها على مجريات الأمور وعندها قد يتسلل من يتسلل إلى هذه التحركات ويحدث تباينات في الطرح، وفي التوجهات أو يحدث نوع من شق الصفوف، أو (وهذا هو الأخطر) الاحتجاجات عن أهدافها التغييرية والسلمية والاجتماعية والسياسية. ان ما نخشاه أن تنجح بعض الفئات التقليدية في "ابتلاع" هذه الانتفاضة أو استيعابها، انطلاقاً من "براءاتها" و"نقائها" وقلة خبرتها في مثل هذه المجالات الجديدة عليها.
ولهذا عندما اتصلت مؤخراً ببعض القيادات من أصدقائي في ميدان التحرير، أبديت لهم مخاوف هي موجودة عندهم أصلاً من اللجوء إلى أي نوع من العنف الذي تستفيد منه الأطراف الحزبية "الأقلية" الأخرى، والنظام نفسه، فيكون ذريعة لخطوات ترمي بمصر في المجهول، او تُعيد بشكل أو بآخر "الهيكليات الأمنية إلى تولي الأمور، أي إلى إعادة إنتاج النظام بأشكال مختلفة، وبإصلاحات جزئية. بمعنى آخر، إن ابقاء التحركات في إطارها الشعبي السلمي والذي وفّر أصلاً التفافاً جامعاً، ليس على الصعيد المصري فحسب، وانما على الصعيدين العربي والعالمي. لأن هذه الانتفاضة هي تعبير مدني يناقض المناحي الانقلابية العسكرية التي أدت إلى أنظمة الحزب الواحد، ودكتاتورية الحزب الواحد والعائلة الواحدة والقبيلة الواحدة. إن الانتفاضة البيضاء كشبيهاتها الخضراء في إيران، و14 آذار في لبنان، والياسمين في تونس قد غيرت صورة الجماهير العربية، التي كانت أسيرة الأصوليات الدينية والاستبدادية والخنوع والقبول. إذاً فالتحركات في مصر، كسائر التحركات الشعبية اليوم هي إنذارات لأنظمة البؤس التي تغتصب السلطة كل يوم في بعض الأقطار العربية بالقمع والهيمنة والقوة والمخابرات والاغتيالات والترهيب، وها هي اليوم، وبعد هذه الانتفاضات السلمية، تحس الأرض مزلزلة تحت أقدامها. أنظمة التوريث تعيش اليوم أزماتها الوجودية، ومخاوفها وحتى رعبها. ذلك أن "ثورات" مصر وتونس وإيران ولبنان، أظهرت لهذه الأنظمة المجرمة، الفاسدة، إنه اذا صمت الناس حيناً، فإنهم لا بدّ ان يكسروا جدران الخوف: جدار برلين الخوف والنفي والحقارة والإرهاب.
على هذا الأساس، نعتبر أن ما يجري اليوم في مصر صورة بهية تنتقل بالعبرة والعدوى والتماهي من بلاد النيل إلى كل الجماهير المقهورة المبتلية بالطغاة. ولهذا، نرى ان اختيار أدوات صورة بهية تنتقل بالعبرة والعدوى والتماهي من بلاد النيل إلى كل الجماهير المقهورة المبتلية بالطغاة. ولهذا، نرى ان اختيار أدوات "غير سلمية" قد لا تضمن في ظل عدم تكافؤ في الإمكانات، المحافظة على ما حققه الشباب حتى اليوم.
وعندما نتناول مثل هذه الأوضاع بسيرورتها وما يمكن أن ان تواجهه من استغلال او عُقد، أو عقبات من هذا الطرف أو ذاك، فلأن كل انتفاضة كبيرة وجديدة، تقابل تحديات هي جزء من مقاومتها ومن صمودها ومن تجاوزها. وفي هذا الإطار تطرح أسئلة: أين حصة "السياسة" بالمعنى التفاوضي من المبدئي! وهل يمكن القول إن الشبان نزلوا إلى ميدان التحرير والميادين الأخرى كشعراء.. وحصلوا على ما حصلوا: بالضغوط السلمية، لكيلا يُتاح لمن يضمر لهم الشر نصب الفخاخ، والمكائد.. ونحن على ثقة بأن هؤلاء، بسقوفهم المطلبية التي لا بدّ أن يحددوها بأنفسهم (وليس عبر غيرهم لا من قبل حزب الله أو خامنئي، أو فلول النظام الأمني في لبنان وأبواقه الإعلامية، ولا من محطة الجزيرة) قادرون على أن يفوتوا كل فرصة لانتزاع انجازاتهم التاريخية أو لاستغلال طاقاتهم لتوجيهها إلى أمكنة أخرى لا تكون لا لمصلحتهم ولا لمصلحة الناس، ولا لمصلحة مصر.. والعرب والعالم الحر.
|