الشبكة العربية : وهم «تعقيم الحياة»!!

الأثنين ١٢ - ٥ - ٢٠٢٥

التاريخ: تشرين الثاني ١٥, ٢٠١٢
الكاتب: فؤاد السعيد
المصدر: موقع الوطن المصري

وهم «تعقيم الحياة»!!

كشفت الأيام الماضية شيوع حالة من التبسيط الأخلاقى لموضوع حجب المواقع الإباحية على الإنترنت، ينتهى إلى تأكيد الأضرار الأخلاقية والصحية لهذه المواقع على الشباب والكبار، وبالتالى فإن «بترها» هو التصرف الواجب. فى المقابل، كان العديد من كبار العلماء والمتخصصين أكثر تريثاً، إذ لفت خبراء الاتصالات أنظارنا إلى الصعوبة التقنية والتكلفة الكبيرة والمستمرة لمحاولة حجب هذه المواقع المتغيرة والمتجددة. أما علماء النفس والاجتماع فتوافقوا على نظرية «تصريف الطاقة»، فالإنسان -خاصة الشباب- لديه طاقة إنسانية لا بد من تصريفها، ولا سبيل لوأدها. فإذا أغلقت مواقع إباحية يعتادها بعض الشباب، فإنهم سيصلون لحلول تقنية للالتفاف على حجبها، كما سيبحثون -بشغف وعناد أكبر- عن غيرها من المواقع المتجددة على الشبكة. يكمن الحل فى توسع المجتمع فى فتح الأبواب أمام الشباب لتحقيق ذواتهم وتصريف طاقاتهم «الإنسانية» طواعية -لا بالقوانين- كل فى المجال المشروع الذى يريد.

من ناحية أخرى أثبتت إحصاءات حديثة أن الاقتصار على نوع واحد من سبل تحقيق الشباب لذواتهم عادة ما لا يحقق النتائج المرجوة، حيث إن طاقات الشباب وميولهم متنوعة ومتعددة وينبغى إشباعها بشكل متوازن. على سبيل المثال تضع الإحصاءات المجتمعات العربية والإسلامية -التى تشهد ظاهرة إحياء دينى قوية خلال العقود الأخيرة- فى مواقع متقدمة للانحراف الجنسى، جاءت أفغانستان الأولى فى التحرش، أما مصر فاحتلت المركز الثانى بجدارة، كما احتفظت بالمركز نفسه فى معدل طلب المواقع الإباحية العربية، وحلت ثامناً فى معدل طلب المواقع الأجنبية!!

أخطر ما فى دعوة من يعتقدون أن حجب تلك المواقع يحل المشكلة، أنهم يتبنون موقفاً متشائماً، فهم لا ينظرون للمجتمع المصرى كواحد من أكثر شعوب العالم تديناً-كما أشارت نتائج «المسح العالمى للقيم» الذى يطبق على ما يقارب المائة دولة- بل يعتبرونه مجتمعاً جاهلياً أو فاقدا للأخلاق على الأقل، وبالتالى فإنهم يرون الحل فى المزيد من التشدد الدينى، لا المزيد من فتح الأبواب أمام الشباب لنمو متوازن لكل طاقاتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية والرياضية والدينية أيضاً.

الأخطر والأخطر أن الدعوة المتحمسة لإغلاق المواقع ليست سوى رأس جبل الجليد الخفى لما أسميه نزعة شاملة لـ«تعقيم الحياة» برمتها: انتقاب النساء والصغيرات دون الاكتفاء بحجابهن، البتر الجائر فى ختان البنات -رغم نهى الرسول عن ذلك- تفضيل تزويج الصغيرة كتحصين مبكر لها. يرى هؤلاء أن الطبيعى أن يتبنى كل مسلم الرؤية السياسية للتيار الإسلامى (حبذا لو تم تطهير المجتمع من الليبراليين)، وحبذا لو أصبح المجتمع كله من المسلمين (لدرجة دعوة البابا تواضروس نفسه للإسلام). الأخطر والأخطر والأخطر أن «تعقيم الحياة» وتطهيرها من كل آخر مختلف يتجلى لدى غير الإسلاميين أيضاً الذين لا يطيقون الحوار مع إسلامى، بل لدى المصريين العاديين الذين تتجلى النزعة لديهم فى صور كاريكاتيرية عديدة: المبالغة فى عزل أبنائهم عن المجتمع المحيط «الفاسد» لدرجة إنتاج أبناء عاجزين ومعوقين اجتماعياً، استخدام فلاتر «تنقية» المياه بأنواعها لدرجة إزالة الأملاح المعدنية الضرورية، وسواس المطهرات الشخصية والمنظفات المنزلية لدرجة الإضرار بمستخدميه أنفسهم.

بداية من الاسم الذى اختاره الشباب الإسلامى للحملة «الإنترنت النقى» Pure Internet وانتهاء بالدعوات لتنقية الدستور وتنقية المناهج التعليمية و«تطهير» الحياة السياسية، تبقى العبرة الأساسية للمجتمعات التى سبقتنا إلى التحول الاجتماعى والإصلاح السياسى: «التعقيم» عملية شاملة، إذا بدأت فى مجال سرعان ما تنتشر لتشمل المحيط كله. الأصل فى الحياة «التوازن الصحى» لا التطهير الشامل. التزيد فى «التعقيم»، غالباً ما ينتهى إلى «عقم» الحياة برمتها.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية

تعليقات القراء (0)

اضف تعليقك

اطبع الكود:


لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر

إقرأ أيضا للكاتب

أخبار ذات صلة