لم يخفق الربيع العربي. بل ذبلت أغصان وحقول اشرأبت من دون تهذيب. وكما في خصائص بعض النباتات التي تلتوي على الأسلاك والأعمدة الصغيرة، إلى أن تحجب الرؤية، ولا تثمر فاكهة، حدث الانبهار الذي جعل قابلية الناس لتصديق أن التغيير حدث، تدفعهم إلى دعم أي بديل مما كانت عليه الأوضاع التي آلت إلى زوال. لم يتسن بعد للمفكرين العرب والنخب السياسية أن يستفيقوا من هول الصدمة الأولى التي حركها شارع بلا زعامات، حتى جاءت الموجة الثانية من الربيع الهادر تعصف بما ارتكب من أخطاء وتجاوزات باسم شرعية صناديق الاقتراع. وطرحت للمرة الأولى إشكالات من مستوى رجاحة الانتخابات على حركة الشارع، أو غلبة الشارع على الآليات القانونية والإجرائية التي تكفل طرائق التعبير عن الإرادة. لكن الفارق أن التلقائية التي تنهمر بها المشاعر في غليان وغضب الشارع تكون أكثر قوة وتعبيرا من أي لحظة اقتراح، تسبقها حملات وإعداد نفسي وثقافي وسياسي لاستمالة الناخبين. جدير بالاهتمام أن أنواع الثورات التي عرفها العالم، وأرخت لانبثاق قيم الحرية والمساواة والعدل والفرص المتكافئة وحظوظ المنافسات ونبذ التمييز، إلى غير ذلك من المبادئ الكونية، لم تنجز أهدافها في شهور وأعوام، بل امتد نفوذها عقودا لغرس ثقافة الثورة التي كان لها ضحاياها. و ما حدث في حالات الربيع العربي يظل أقرب إلى فورة انفجرت جراء الارتطام بالاختناق، وكما في انتفاضة مايو 68 في فرنسا سيلعب الشباب و الطلاب دورا رياديا يتجاوز فضاء الجامعة إلى المصنع والحقل والإدارة. ولم يجد الغضب العربي مثيلا للرئيس الفرنسي ديغول، ولم تفلح أجهزة الرصد الاستخباراتية في التقاط موجات الرياح، مع أنها كانت أقرب ضمن علامات الوجوه و الظواهر. لأن الحاجز النفسي تكسر، لم يعد في الإمكان إحياء ثقافة الصبر التي أثقلت كاهل الشعوب وارتهنتها لنظم حكم جائرة ومستبدة. ولعل الغائب في وعي حكام الربيع الجدد أنهم تصوروا أن كيمياء نفاذ الصبر لن تعود إلى الاختلاط. أو في أقل تقدير أن صناديق الاقتراع تبيح المحظور في ممارسة سلوكات، كان من يناهضها ويرفضها أكبر ممن يحبذها و يستسلم لها. اللافت في التطورات التي عرفتها مصر أنها كادت تخير الناس بين الدم أو الإستسلام، إما قبول استمرار نفوذ صناديق الاقتراع وإما الانقلاب ضد الانقلاب. لكن أي فرق بين استخدام الشارع والتلويح بالعنف وبين ما كان يفرضه الحكام الذين أطاحتهم موجة الربيع العربي الأول؟ وإذا كان مفهوما أن أولائك لم يكن يساندهم رأي عام يستطيع التعبير بكل حرية عن مواقفه، فإن هؤلاء لا يريدون أن يذعنوا لصيغة أكثر تحررا في التعبير، أي التظاهر في الشارع. فصناديق الاقتراع ليست زواجا كاثوليكيا بل إنها تعاقد يمكن أن يتعرض إلى النقض من اي طرف. وفي شريعة المتعاقدين أن الإخلال يفرض فسخ العقود. في مقابل ذلك، إن من يقلل من نفوذ الشارع الغاضب يلجأ إلى الاحتماء به، أي أن السلوك واحد في الحالتين. لكنه يختلف في التلويح بالمجهول. وفي تجارب غير بعيدة عن جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر أخطأت طريقها في استرداد الثقة حين تفرعت عنها أصول وتيارات لجأ بعضها إلى الصعود إلى الجبال واستخدام السلاح. ولم تترك التجربة غير مزيد من الوشم والجراح، دفعت الجزائريين لأن يكونوا أكثر حذرا واحتراما من اي شيء يشتم منه رائحة العنف واستباحة هدر الارواح. بيد أن التجربة المصرية لا تتحرك في جزيرة معزولة. وقد بدأ امتدادها مشرقا في اتجاه ليبيا وتونس، بينما ظلت الجزائر محدودة في زمنها وخرائطها. وأكثر ما يدفع إلى الاعتقاد في أن القناعات التي توصل اليها الجزائريون بعد اكثر من عشرية دموية ستكون مآل شعوب أخرى في تونس وليبيا في حال الانحراف عن المسار الديموقراطي. وربما كان أجدى بمناصري الرئيس المعزول محمد مرسي إدراك أن الأخطاء نفسها تؤدي إلى النتائج نفسها. فالفرصة التي سنحت لجبهة الانقاذ الجزائرية لتصبح شريكا محوريا في العمل السياسي لم تتكرر حين اضطرت إلى الدخول في مواجهة مفتوحة مع النظام. وهي نفسها ظلت تردد أنها تتبنى المنهجية السلمية وأن خصوم الديموقراطية يميلون إلى العنف. لا تتكرر الفرص دائما، وفي امكان تنظيم «الاخوان المسلمين» في مصر، وقد أصغى إلى إقرار الرئيس مرسي بارتكاب أخطاء أن يضع مسافة بينه والرئاسة التي صارت في مثل الفرودس المفقود في الأندلس. ولن يتطلب ذلك أكثر من العودة الى المربع الاول، اي الاتفاق على الاطار العام وخارطة الطريق في الفترة الانتقالية. وبعدها من كان الشارع يسانده فلن يعدم الوسائل القانونية في التعبير عن ذلك. لكن الزمن لا يتوقف دائما في انتظار اتخاذ القرارات الحاسمة، فهي التي يتعين أن تسابقه قبل فوات الاوان.
|