تحاول النخبة السياسية والثقافية المصرية إعادة إنتاج خطاب المؤامرة انطلاقاً من قناعة أساسية هي أن أميركا عارضت بشدة الترتيبات التي تمت بعد 30 حزيران (يونيو) لأنها تحالفت استراتيجياً مع الحكم «الإخواني» بغية تفكيك الجيش المصري وتقسيم البلد إلى دويلات وفقاً لمخطط المحافظين الجدد وبذلك تجاهلت تلك النخبة متغيراً في غاية الأهمية، وهو سقوط خطاب المحافظين الجدد فعلياً منذ 2008 استناداً إلى شهادة المفكر الياباني الأميركي فرانسيس فوكوياما بصفته أبرز منظري هذا التيار. فبحسب ما طرح في كتابه «أميركا على مفترق طرق» فإنه بعد أن اعتبر نفسه لفترة طويلة من المحافظين الجدد توصل إلى قناعة جديدة مفادها أن خطابهم نما وتطور في شكل لا يستطيع معه أن يستمر في تأييده. فبرغم أن فوكوياما حاول في هذا الكتاب الاستبقاء على بعض مبادئ المحافظين الجدد ومنها إيمانهم بأن الديكتاتوريات خطرة على العالم بسبب سلوكها وتطلعاتها الاستبدادية. إلا أن استراتيجية المحافظين الجدد في نشر الديموقراطية في العالم والتي تجلت في عملية غزو العراق ينبغي استبدالها باستراتيجية أطلق عليها فوكوياما «الويلسونية الواقعية»، نسبة إلى الرئيس وودرو ويلسون الذي سعى إلى تشجيع سياسة أميركية خارجية تعتمد أكثر على القيم. فبرغم أن إدارة المحافظين الجدد جعلت من تشجيع الديموقراطية جزءاً مهماً من سياستها الخارجية، إلا أنها اعتمدت على سياسة استخدام القوة المسلحة في نشر الديموقراطية بدلاً من الاعتماد على القوة الناعمة وهي استراتيجية يجب أن تتغير وفق فوكوياما الذي أكد في حوار أجراه مع جريدة «لوموند» الفرنسية في أواسط كانون الثاني (يناير) 2007 أن خطاب المحافظين الجدد سيختفي مـن الوجـود إلى الأبد بحلول عام 2008 فممارساتهم الامبريالية جعلت مجتمعات العالم الثالث تتعامل باستخفاف مع النموذج الليبرالي الأميركي بفعل انتهاكات حقوق الإنسان التي عبرت عن نفسها بقوة في سجن أبو غريب العراقي. وأكد أن لبنان هو الجزء الوحيد من العالم العربي الذي يعمل فيه سيناريو المحافظين الجدد بنجاح بخلاف فلسطين التي مثَّل صعود الإسلاميين فيها بعد انتخابات عام 2006 نكسة قد تنهي الفرصة أمام أية عملية سلمية في المدى القريب. ففي سياق كهذا يتجدد التساؤل في شأن نجاعة خطاب المؤامرة النخبوي الرائج الآن في مصر. فالأمر اللافت هنا أن هذا الخطاب تجاهل محددين أساسيين انضوى في إطارهما مشروع المحافظين الجدد. المحدد الأول هو النزعة التخصيصية التي تعامل من خلالها مع كل نموذج في المنطقة العربية على حدة بخلاف النزعة التعميمية لخطاب المؤامرة المصري التي دُمجت من خلالها نماذج العراق وليبيا وسورية. أما المحدد الثاني فهو نسبية وسياقية مشروع المحافظين الجدد التي يمكن وفقاً لها أن ينجح لفترة ثم يفقد صلاحيته بعدها بخلاف الطابع الميتافيزيقي لنظرية المؤامرة المصرية التي ترى أن خطاب المحافظين الجدد كان ولا يزال وسيظل قدراً مفروضاً على العرب من دون أدنى اعتبار لثلاث حقائق مهمة. الحقيقة الأولى هي وجود اختلافات في البنى الثقافية والمجتمعية ما بين العراق وسورية وليبيا ومصر قد تحول دون تنفيذ تلك المخططات أو تساهم في تنفيذها وفق طبيعة كل مجتمع. والثانية هي التناقض البنيوي ما بين مرحلة تاريخية راهن فيها القطاع المتغرب من النخبة السياسية والفكرية العربية على التدخل الأميركي من أجل إقرار الديموقراطية في العالم العربي، كما حدث في النموذج العراقي وبين مرحلة تاريخية أخرى باغتت فيها الجماهير العربية هؤلاء المتغربين وحلفاءهم الأميركيين بخروجها الأسطوري في مواجهة الديكتاتوريات العربية الراسخة خلال ثورات الربيع العربي. والحقيقة الثالثة والأخيرة هي أن مواجهة تلك المؤامرة الأميركية المزعومة لا يمكن أن تتم عبر إعادة إحياء شرعية النظم التقليدية بطبعتها العسكرية، فنظام صدام حسين العسكري القمعي كان بمثابة الثغرة التي نفذ عبرها مخطط المحافظين الجدد إلى المنطقة العربية، ولذلك يمكن القول إن إعادة إنتاج خطاب المؤامرة تنم عن وجود خلل في تفكير قطاع عريض من النخبة المصرية. فالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط كان قد تحدث في مؤلفه المهم «نقد العقل الخالص» عن نمطين من التفكير، أحدهما صحيح والآخر خاطئ. الأول هو تفكير متدرج صاعد يبدأ من الأسفل بالتعاطي مع الحقائق القائمة على أرض الواقع، مرتقياً من خلالها إلى منظومة القيم العليا. أما التفكير الخاطئ فهو تفكير بنائي هابط يبـدأ من منظومـة القيم العليـا ثم يهبـط بها إلى الأسفــل معيـداً تشكيل حقائــق الواقـع من خـلالها في شكل دوغماطيقي ووهمي. فهذا النمط الثاني من التفكير شـاع في أوسـاط النخبة المصريـة لأن الصراع القيمي والأيديولوجي مع «الإخوان المسلمين» وما ارتبط به من حملات لتشويههم وتخوينهم بهدف اجتثاثهم من الوجود استوجب في نهاية المطاف إحياء استراتيجية المحافظين الجدد التي ماتت واقعياً منذ سنوات. ومن ثم ليس مستغرباً أن يكون صعود الإسلاميين إلى السلطة والذي وصفه فوكوياما بالكارثي، دليلاً على تبني الإدارة الأميركية الحالية مخططات المحافظين الجدد في الوقت الذي لم يُعتبر فيه ارتباك الموقف الأميركي والدولي حيال ترتيبات ما بعد 30 حزيران (يونيو) دليلاً على أن هناك خطأ ما قد اعتراها وأن الاندفاع باتجاه مزيد من قمع الحريات وعسكرة المجتمع سيدفع السياسة المصرية نحو ارتكاب أخطاء أكبر وأكثر فداحة لا يمكن أن يواريها خطاب المؤامرة المتهافت. * كاتب مصري
|