جاءت الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير حاملة يوماً عصيباً ثقيلاً، شهد سقوط عشرات القتلى والجرحى في شوارع مصر، وعكس مدى عمق الأزمة التي تمر بها الثورة، ويمر بها الوطن بأكمله والتي تمثّلت في استقطاب سياسي حاد تطور إلى انقسام اجتماعي خطير بات يهدد مستقبل الوطن. اندلعت ثورة 25 يناير على يد مجموعات شبابية تعاني من السيولة الفكرية والتنظيمية، فجاءت الثورة خالية من القيادة الشخصية، والتنظيمية، والايديولوجية، وكانت هذه نقطة قوة لها في لحظة إندلاعها في مواجهة دولة أمنية عجزت عن الإمساك بالعقل المدبّر للثورة، إلا أنها انقلبت بعد ذلك إلى نقطة الضعف الكبرى في بنيتها ومسيرتها.
فبعد أن حقق الشباب إنجازهم ألقوا به على قارعة الطريق، بسبب تشرذمهم، ونزقهم الثوري، وتنازعهم، وإعتقاد البعض أن الثورة هي "الإحتجاج الدائم"، فكانت المُحصّلة أنهم تركوه غنيمة باردة تنازعتها القوى والوجوه القديمة البالية، التي تعاني من الإفلاس الفكري والسياسي - وأحياناً الأخلاقي -، والتي كانت طوال عهد المخلوع مبارك جزءاً من المشكلة، ولم تكن يوماً جزءاً من الحل، وأنّى لثورة أن تستكمل طريقها دون قيادة؟
فثورة 1919 كانت بزعامة سعد زغلول باشا، وأفرزت تنظيماً سياسياً كبيراً تمثّل في حزب "الوفد"، الذي استطاع أن يقود الجماهير المؤيدة للثورة في إطار تنظيمي يمثّلها. وكذلك أفرزت ثورة 23 يوليو 1952 قيادة تمثّلت بالرئيس جمال عبدالناصر، و"مجلس قيادة الثورة" الذي مثّل تنظيم "الضباط الأحرار" الذي قام بالثورة.
إلا أن ثورة 25 يناير 2011 ظلّت تعاني من "الفراغ القيادي"، بسبب حالة التجريف الهائلة والقاسية التي تعرّضت لها التربة المصرية طوال الثلاثين عاماً الماضية، والتي اقتلعت الأشجار وأبقت على الحشائش،حيث كشفت الثورة عن مدى الإنهيار السياسي والإجتماعي الذي أصاب مصر خلال تلك الفترة، كما كشفت عن حجم التشوّهات النفسية والأخلاقية التي أصابت الكثيرين، فلم تترك تنظيماً سياسياً أو إجتماعياً واحداً بقدر معقول من العافية، بإستطاعته أن يملأ الفراغ ويقود المسيرة.
وكانت نتيجة هذا "الفراغ القيادي"، أن عُدنا إلى الثنائية البغيضة التي رسف فيها المجال السياسي المصري لنحو 60 عاماً (دولة يوليو 1952 – جماعة الإخوان المسلمين)، وبدا هذا واضحاً في جولة الإعادة في الإنتخابات الرئاسية في 2012.
وكانت المحصّلة أن ظلّت الثورة في الشارع، ولم تنجح في الوصول إلى مؤسسات الدولة المتهالكة، كما أن التعامل الخاطئ الذي انتهجته جماعة الإخوان المسلمين في عهد الرئيس المعزول مرسي زاد الأمر سوءاً، حيث حاولت الجماعة "تطويع" مؤسسات الدولة والسيطرة عليها من أعلى، أو إعادة طلاء البنية الفاسدة القديمة دون إعادة هيكلتها، مما منح الفرصة لتلك المؤسسات من أجل إعادة الإصطفاف والتكتل ضد أي محاولة لإصلاحها.
وها هي الثورة في ذكراها الثالثة تقف في منتصف الطريق شاحبة تائهة، وقد انحرف مسارها فأكلت بعض أبنائها، وبعضهم تخلّى عنها، وبعضهم قد انقضّ عليها، عبر مطالبته بعكس ما طالبت به الثورة في مشهد درامي عجيب.
فقد جاءت أهداف الثورة في شعارها الشهير "عيش – حرية – عدالة إجتماعية"، وإذا ما سرّح المرء الطرف، وقلّب النظر بحثاً عن أهدافها؟، لإرتدّ إليه الطرف كاسفاً وهو حسير. فالأحوال الإقتصادية ازدادت سوءاً، ولم يطرأ على البنية الإقتصادية والإجتماعية أي تغيير يُذكر، ومساحات الحرية ضاقت وتقلّصت بشدة حتى عن عصر مبارك والعدالة الإجتماعية لا أثر لها.
تقف الثورة في ذكراها الثالثة وقد أحاطت بها أخطار عدة، فالوصاية العسكرية على المجال السياسي صارت مقررة بنصوص دستورية، والدولة الأمنية عادت بآلياتها وأدبياتها القديمة وبنزعة إنتقامية، وخصوم الثورة من تحالف الفساد والإستبداد القديم غارقون في حالة من الإنتشاء، إنطلاقاً من ظنهم أن 30 يونيو "شَطَب" 25 يناير بل وأعاد الأوضاع إلى ما قبل 25 يناير.
والأخطر هو أن الثورة باتت مهددة بالإرتداد والإنتكاسة إلى حكم الفرد و نظام الحزب الواحد، أو "حزب الدولة" الجديد، وما عرفته مصر من "تنظيم شمولي أوحد" في إعادة إنتاج - وبصورة مأسوية - لتلك التنظيمات التي جثمت على صدر مصر طوال 60 عاماً، والتي تغيرت أسماؤها من "هيئة التحرير" إلى "الإتحاد القومي" إلى "الإتحاد الإشتراكي" إلى "حزب مصر" إلى "الحزب الوطني" وهي التي احتكرت الثروة والسلطة وضمّت في صفوفها من جمعتهم المصالح وليس المبادئ.
فها هي جموع الإنتهازيين من الطبّالين والزمّارين - الذين أكلوا على كل الموائد وهتفوا بكل الشعارات في كل العصور- تقف متلمِّظة متلهِّفة في إنتظار ظهور "حزب الدولة" الجديد كي تسارع بالإنضمام إليه، للحفاظ على مكاسبها الإقتصادية والإجتماعية، وإعادة إنتاج بنية الفساد والإستبداد القديمة.
والأدهى أن إعادة إنتاج الماضي ستكون هذه المرة بنكهة "شمولية وفاشية"، تبدو واضحة للعيان من خلال الخطاب الإعلامي الزاعق والأحادي الإتجاه – والذي بلغ أوجه إبّان الإستفتاء الأخير على الدستور الجديد - الذي يجنح لتصنيف الناس وفقاً لثنائيات مغلقة لا وسط بينها من نوعية "وطني – خائن" "المواطنون الشرفاء - الطابور الخامس".
إن القوى الثورية مدعوّة الآن - أكثر من أي وقت مضى - إلى إعادة بناء تيار ثوري عبر التكتّل في تشكيلات تنظيمية سياسية وإجتماعية ذات قواعد شعبية، تحمل أهداف الثورة، وتحاول أن تستغل مساحات الحركة في المجال العام - والتي باتت بكل أسف محدودة – من أجل العمل على رتق الفتوق والشقوق السياسية والإجتماعية التي خلّفتها الأزمة الحالية في جسد الوطن، و كسر تلك الثنائية المغلقة التي رسف فيها المجال السياسي لنحو 60 عاماً، وباتت عقبة أمام إنطلاق الوطن نحو المستقبل.
ثورة 25 يناير في أمسّ الحاجة الآن إلى أبنائها المخلصين، الذين يقع عليهم عبء إنقاذها، وتصحيح مسارها، وتحقيق أهدافها أو بعبارة أدق.... اللحاق بما تبقى منها. كاتب مصري
|