الأثنين ١٨ - ٨ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: آذار ٢, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
مروان المزوِّر في صحراء الواقع - سامر فرنجيّة
تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الصحف العربية والأجنبية صورة لطفل سوري يدعى مروان، يجول وحيداً في الصحراء بعدما انفصل عن أهله الهاربين من الجحيم السوري. لم يكن مستغرباً أنّ يكون صدى تلك الصورة قوياً. فحمولتها الرمزية وطابعها المفعم بالعواطف التقطا المأساة السورية ولخّصا بلقطة واحدة كلمات كثيرة وأحاسيس أكثر. للحظة قصيرة، كنا كلنا مروان.

لكنّ سرعان ما تلاشى كل هذا عندما تبيّن أنّ الصورة مفبركة. فمروان، كما غرّد ممثل مفوضية الأمم المتّحدة للاجئين في الأردن، كان ابتعد بعض الشيء عن مجموعة من اللاجئين، ليعود ويلتحق بعائلته، كما طمأننا موظف الأمم المتّحدة. وحدة مروان في عبوره الصحراء مفبركة، نتيجة تلاعب رقمي أو تكاذب صوري. مروان اللاجئ ما زال يمشي في الصحراء، لكن مرواننا الأسطوري لم يكن.

هذا لا يلغي «حقيقة» أنّ مروان ما زال لاجئاً، أو «حقيقة» أن مصيره المأسوي قد يكون أفضل من مصير الـ56 طفلاً الذين ما زالوا في مركز للاستجواب تابعٍ للنظام السوري في حمص، والذين تطالب منظمة الأمومة ورعاية الطفولة التابعة للأمم المتحدة النظام بالعمل من أجل الإفراج السريع عنهم. لكنّ الصورة مفبركة، لذلك اقتضى التوضيح.

في الفترة ذاتها، انتشرت صورة أخرى تُظهر فتاة ترجمها «داعش» لاستعمالها موقعاً للتواصل الاجتماعي. ولكن، كما مع قضية مروان، تمّ تكذيب هذه الصورة. فليس هناك من فتاة رُجِمت، غير أنّ هناك قرابة 160 شخصاً، غالبيتهم أكراد، خطفهم التنظيم الجهادي من دون صورة توثّق معاناتهم، بل مجرد تقرير يرويها بكلمات جافة ومقتضبة. الصورة مزوّرة، لكنّ المعاناة حقيقية.

هاتان الحادثتان ليستا معزولتين، بل قد تعبّران عن العلاقة المتوترة بين الواقع وتصويره، بخاصة في ما يتعلّق بتغطية الثورة السورية. فمنذ انطلاقتها، هناك جدل حول «حقيقة» ما يجري، يُخاض من خلال تقارير وصور وشهادات مضادة، تتنافس على تمثيل الواقع. وللتذكير فقط، فزعيم نظام «البعث» كان انتبه إلى دور الصورة عندما ابتكر مقولة «الزوم إين والزوم أوت» للإشارة إلى احتمال التلاعب بالتمثيل من خلال التقنيات الحديثة. ونتيجة هذا التوالد والتكاثر للصورة، انتشرت حالة عامة من الشكّ والريبة أدّت ببعضهم إلى الابتعاد عن هذا الموضوع برمّته، ريثما تتّضح الصورة وتنجلي الحقيقة.

المسألة تتعدى هنا حقيقة ما يجري، لتطاول علاقتنا المتوتّرة بهذا الواقع وحاجة بعضنا الماسة الى بعض التطمينات الصُّوَرية. فصورة مروان في نسختها المزوّرة قد تكون أكثر «حقيقية» من كل الصور التي التقطت عن سورية، في تصويرها عزلة ومأساة شعب مشرد ومنسيّ ومتروك ليجوب صحراء بلا نهاية. في حمولتها الرمزية، هذه الصورة هي الحقيقة، وإن كانت حقيقة مركّبة ومزوّرة ومفبركة. غير أنّ صورة مروان عابر الصحراء لم تقدّم نفسها كصورة رمزية، بل كتعبير شفاف عن واقعة حدثت، ما استدعى التوضيح السريع من الأمم المتّحدة.

انتهكت صورة مروان المفبركة عقداً ضمنياً بين الشاهد والمصور، وإن كانت في كذبها تعبر عن الواقع بصدق. فبعد عقود من التشكيك الفلسفي بالحقيقة وشفافيتها، ومن التشكيك بالإعلام والصور والخطابات، لم يعد الشاهد المتلقي السلبي لصور الغير، كما يُعتقد أنّه كان، بل بات يطـــالب بالحقيقة الكاملة والمجرّدة ليبني عليها استنتاجاته. بهذا المعنى، تحرّر الشاهد من قمع المنتج. غير أنّه مع بروز ديموقراطية الصور هذه، بدأ القلق يتسرّب فالضمانة قد تكون مستحيلة. وفي هذه اللحظة، تضخّمت الحاجة إلى تثبيت هذه الحقيقة العابرة والهشة، كما بدأ البحث المسعور عنها في أرقام موثّقة واجتماعات مسجّلة وصور مصدّقة، تقدّم لنا واقعاً يقيم فيه خياره السياسي والأخلاقي.

قد يكون هذا البحث عن حقيقة مستحيلة، إحدى الإشارات الى انتهاء عصر الأيديولوجيات الذي اعتُبِر تقدماً في السياسة، وإن كان ثمن هذا التقدّم بدأ يظهر. فصحيح أنّ السياسة تحرّرت من الضمانات الكاذبة للتاريخ أو للنظرية، وباتت المشاريع الثورية والكارثية شيئاً من الماضي، ولكن تمّ التعويض عن هذا التحرّر بالبحث المستميت عن حقيقة تُحوِّل السياسة المابعد أيديولوجية إلى شيء أشبه بالبحث القانوني أو التقني مما بالسياسة. وفي هذا النمط من السياسة، شكّلت مقولة «الشفافية» النموذج العام للنظرة إلى المجتمعات. وباتت الخصومة السياسية تفسّر بخرق لعقد الشفافية هذا، ما أظهرته أخيراً شعبية تهمة «الفساد». وفي هذا الإطار، انحصر العمل السياسي في التدقيق بالإعلام وموضوعيّته المستحيلة. ولربّما جاءت لحظة الذروة لتفكير كهذا مع فضائح «ويكيليكس» التي أكدّت أنّه لم يعد هناك مكان آمن تستطيع الحقيقة أن تختبئ فيه.

غير أنّ التاريخ القصير لظاهرة «ويكيليكس» أظهر حدود هذه «الأيديولوجيا» الجديدة. فتبيّن أنّ الحقيقة أقلّ سواداً ومؤامراتية مما كان يتخيّله بعضهم، وأنّ الواقع سخيف مقارنة بما كان يُحاك حوله من تنظيرات. أمّا الثورة السورية وجحيمها الذي لا قاع له، فأظهرا الحدود المقابلة لهذه الأيديولوجيا، أي أنّ الصورة مهما كانت قاسية ومؤلمة، لن تلتقط مدى العنف والرعب الذي آلت إليه الأوضاع. بكلام آخر، من يبحث عن ضمانة لموقفه في حقيقة نابعة من الواقع، سيبقى مثل مروان المزوّر والمفبرك، تائهاً في صحراء من دون توضيح من ممثل الأمم المتّحدة يرشده.

وبالعودة الى الثورة السورية وصورها وجدالاتها، ليس هناك تقرير أو صورة أو رقم أو شهادة ستظهر حقيقة ما يجري. بكلام آخر، لا معنى لأية حقيقة تظهر في زمن فقد شهيته للسياسة واستغنى عنها بالبحث العبثي عن ضمانات مفقودة. ما أظهرته تلك الثورة، في وجودها وفشلها، أننا بتنا جميعاً، في السياسة على الأقلّ، مثل مروان المزوّر والمفبرك، تائهين في صحراء الواقع.



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة