الثلثاء ١٣ - ٥ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: آذار ١٢, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
لماذا تراجع الإعلام المصري؟ - محمد شومان
تؤكد أدبيات الإعلام والسياسة وجود صلات قوية وتأثير متبادل بينهما، لكن هذا التداخل لا يمنع من وجود قواعد قانونية وسياسية ومعايير مهنية ومواثيق شرف إعلامي، تحدد حدود ما هو سياسي وما هو إعلامي، وحتى إذا انتهك البعض تلك الحدود - وكثيراً ما يحدث ذلك في الديموقراطيات العريقة - تظل هناك قواعد وآليات للضبط والمراقبة سواء مارسها الإعلاميون أنفسهم ونقاباتهم المهنية، أو المجتمع.

لكن الوضع في مصر مختلف، والحدود متداخلة، لأن الأطر القانونية والهياكل التنظيمية الخاصة بالإعلام والموروثة من حكم حسني مبارك لا تكفي لتحقيق الضبط الذاتي للإعلام والمراقبة المجتمعية، حيث كان الطابع الاستبدادي للنظام وأجهزته الأمنية يقوم بعملية الضبط وفق معايير تخدم عمليات تزييف وعي الجمهور، وخلق نوع من القبول العام بالأوضاع القائمة، لكن انهيار منظومة الاستبداد والأمن خلق فجوات متعددة وأدى إلى ما يشبه الفوضى بين الإعلام والسياسة، حيث سجلت سنوات الثورة الثلاث محاولات جادة من الإعلاميين لرفع هامش حرية الإعلام، وفي الوقت نفسه شهدت أعلى معدلات تسييس الإعلام على حساب المهنية واحترام مواثيق الشرف الإعلامي وانتهاك خصوصية المواطنين وتشويه صورة المعارضين، علاوة على اضطهاد الإعلاميين، من هنا تراجع ترتيب حرية الصحافة والإعلام في مصر في تقارير الكثير من المنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن.

عانى الإعلام المصري آثار التحول الديموقراطي المتعثر وتداعياته، والذي جاء بعد ثورة غير مكتملة، وربما يكون الإعلام نفسه قد شارك في صناعة هذا التعثر، لكن الأهم أن كل الأطراف المتصارعة التي وصلت إلى السلطة (المجلس العسكري و «الإخوان المسلمين» والحكم الحالي) لعبت الدور الأكبر في الحد من حرية الإعلام، حيث أبقت على الأطر القانونية والتنظيمية القديمة وعملت على توظيفها لمصلحتها، ولم يسعَ أي منها إلى تغيير أوضاع الإعلام في شكل جاد بما يضمن حريته وتفعيل دوره في عملية التحول الديموقراطي، وذلك على رغم ادعاء السلطات الثلاث الحرص على حرية الإعلام واستقلاله! ويظل هذا الحكم العام صحيحاً، على رغم وجود بعض الاختلافات في مستويات المنع والتسامح في ممارسة كل سلطة، وإن كان الحكم الحالي أكثرها تشدداً في المنع واضطهاد الإعلاميين واستبعاد، أو تهميش أصوات المعارضة.

في ظل الحكم العسكري (2011 - 2012) بقيادة المشير حسين طنطاوي استمرت تبعية الإعلام العام للحكومة من خلال التحكم في تعيين أعضاء المجلس الأعلى للصحافة واتحاد الإذاعة والتلفزيون، فضلاً عن تبعية القنوات الفضائية الخاصة لهيئة الاستثمار، والتي تتعامل مع تلك القنوات كمشاريع استثمارية وليس كمؤسسات إعلامية تعمل في مجال الإعلام وصناعة الأخبار وتشكيل الرأي العام. لكن ارتفاع الطلب على الحرية بعد الثورة مباشرة سمح للإعلام الحكومي بالتحرر نسبياً من قبضة الدولة، كما سمح بظهور عشرات الصحف والقنوات الخاصة التي تمتلكها حفنة من رجال الأعمال المحسوبين على نظام مبارك، وهؤلاء استثمروا بسخاء، ومن دون مراعاة للاعتبارات الاقتصادية نظراً إلى غياب قوانين للشفافية والإفصاح، والمفارقة أن سخاء ميديا رجال الأعمال قد مكنها من التفوق على الصحف والقنوات الحكومية في معركة التأثير في الرأي العام، حيث حظيت ميديا رجال الأعمال بمعدلات قراءة ومشاهدة أعلى من ميديا الحكومة خلال أشهر قليلة، ويرجع ذلك لأسباب كثيرة منها تراجع صدقية ميديا الحكومة التي كانت تسبّح بإنجازات عصر مبارك، وأدائها البيروقراطي البطيء ومعاناتها من الديون والمطالب الفئوية لعشرات الألوف من الإداريين والإعلاميين العاملين فيها.

ولم يحاول «الإخوان» في حكمهم السريع والمأزوم (2012 - 2013) تغيير الأوضاع السابقة، وإنما حافظوا عليها مع محاولة توظيفها لمصلحتهم («أخونة» الإعلام) من خلال سيطرتهم على الرئاسة ومجلس الشورى، وقاموا بتعيين بعض الإعلاميين «الإخوان» أو المتعاطفين معهم، علاوة على الانتهازيين في المجلس الأعلى للصحافة، وفي رئاسة تحرير الصحف وفي الإذاعة والتلفزيون، لكن مخطط «أخونة» الإعلام تعثر بسبب مقاومة الإعلاميين في الإعلام الحكومي والخاص، ولعبت ميديا رجال الأعمال الدور الأهم في معارضة حكم «الإخوان»، وهو ما أدى إلى زيادة التسييس في الإعلام وتعميق الانقسام والاستقطاب السياسي والثقافي في المجتمع، حيث دافعت الصحف والقنوات الإسلاموية وقناة «الجزيرة» عن حكم «الإخوان»، وهنا ثمة جدل ونقاش حول: هل عكس الإعلام هذا الاستقطاب أم عمّق منه وضخمه؟ وكذلك حول مدى قدرة الإعلام على إسقاط حكم «الإخوان»؟ بمعنى هل ضخّم إعلام رجال الأعمال المتحالف مع جبهة «الإنقاذ» أخطاء «الإخوان»، أم قدمها للجمهور، بالتالي تحرك لإسقاط حكم مرسي؟ طبعاً إجابة «الإخوان» تتهم الإعلام بصناعة الأحداث وتشويه منجزات حكم مرسي، والتي أعتقد شخصياً أنها لم تحدث على أرض الواقع وإلا أدركها المصريون، بالتالي لم يصدقوا إعلام المعارضة لأن الإعلام مهما كانت قوته وتأثيره لا يمكن أن يصنع الأحداث ويحرك الجمهور للفعل السياسي، إلا في حدود وفي ظروف خاصة لا يكتب لها الاستمرار أو النجاح في تحقيق تغيير سياسي كبير بحجم ما حدث مثلاً في 30 حزيران (يونيو).

وفي ظل الحكم الانتقالي الحالي لم تتغير القوانين والتنظيمات الإعلامية الموروثة من عصر مبارك، أو عصر مرسي وهو ما سمح بإغلاق القنوات الإسلاموية الخاصة وحشد الإعلام الحكومي والخاص لتأييد خريطة الطريق، ودعم الحل الأمني في مواجهة «الإخوان» على حساب الحل السياسي، مع ملاحظة:

1- منع أو تهميش أصوات المعارضة حتى أصبح الإعلام المصري هو إعلام الصوت الواحد تقريباً.

2- استمرار تراجع تأثير الصحف والقنوات الحكومية لمصلحة إعلام رجال الأعمال والقنوات العربية والأجنبية (الناطقة بالعربية) مع ملاحظة أن قناة «الجزيرة» وأخواتها لا تزال تلعب دوراً في الإبقاء على حالة الاستقطاب والانقسام في الرأي العام.

3- تنامي دور الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي التي تقدم إعلاماً موازياً وفعالاً بين الشباب (غالبية المجتمع) لكنها تعاني نقص الصدقية وتحولها إلى منصات للاستقطاب والتشاحن بين مؤيدي الحكم الانتقالي ومعارضيه وانتخاب المشير السيسي أو حمدين صباحي.

4- استمرار مستويات التسييس والتوظيف السياسي والدعائي ضد رموز المعارضة المدنية للحكم الانتقالي وفي مقدمهم شباب الثورة، حيث أذاعت قنوات خاصة تسجيلات هاتفية مجهولة المصدر تتضمن اتصالات ناشطين مع جهات أجنبية وتلقّي أموال، ما اعتبر انتهاكاً صارخاً للحياة الخاصة وتشويهاً للسمعة، لا سيما أن كل هذه التسجيلات لم تقدم للنيابة والقضاء، ما أشاع حالة من المحاكمات الإعلامية الشعبوية التي تضر بهيبة القضاء، وصدقية الإعلام وأخلاقياته.

5- إن خريطة الطريق في 3 تموز (يوليو) قد نصت على كتابة ميثاق شرف إعلامي ومع ذلك لم تتحرك الرئاسة أو الحكومة لتفعيل هذا النص، والغريب أن آلاف العاملين في الإذاعة والتلفزيون الحكومي والخاص ليس لهم نقابة تدافع عن مصالحهم وتضع «ميثاق شرف إعلامي»، ولا يبقى سوى ميثاق شرف للصحافيين لا يطبق بفاعلية ويحتاج إلى تطوير لاستيعاب التغيرات في المهنة، وزيادة حضور الصحافة الإلكترونية وتأثيرها.

المشكلات السابقة تكشف عيوباً هيكلية في بنية الإعلام وأدائه، والأخطر أنها مستمرة وقابلة للتضخم لأنه لا توجد جهود جادة لعلاجها، فالأطر القانونية والتنظيمية لم تتغير، والأوضاع النقابية والمهنية للإعلاميين باقية وتتعثر محاولات إقامة نقابة أو نقابات مستقلة للإعلاميين في الإذاعة والتلفزيون، وكذلك لا يوجد اهتمام كافٍ لتشكيل جمعيات أهلية للدفاع عن حقوق الجمهور في الاتصال والإعلام، والمفارقة أن مواد الدستور الجديد الخاصة بتنظيم الإعلام والإشراف عليه لم تطبق حتى الآن، على رغم مرور ثلاثة أشهر على إقرار الدستور والحاجة الشديدة إليها، لأن انتخابات الرئاسة والبرلمان على الأبواب ما يتطلب إعلاماً منصفاً ومتوازناً، وهو ما لا يمكن ضمانه في ظل استمرار الأوضاع الحالية للإعلام، ويقترح الدستور الجديد تشكيل مجلس أعلى للإعلام وهيئة للصحافة، وهيئة للإعلام المرئي والمسموع، إلا أنه أحال صلاحيات الهيئات الثلاث وتمويلها وطريقة اختيار أعضائها إلى القانون الذي لم يصدر حتى اليوم، وكان دستور «الإخوان» قد اقترح هيئتين للإشراف على الإعلام لكن الاقتراح لم يطبق أيضاً! وهو ما يثير التساؤل حول مدى جدية التزام الحكم الحالي و «الإخوان» بمواد الدستور؟

هناك من يرى أن الرئيس الموقت لا يريد أن ينفرد بتشكيل الهيئات الإعلامية الجديدة ويفضل أن يترك تلك المهمة للرئيس المنتخب أو للبرلمان، ولا شك في أنها بادرة طيبة وديموقراطية من الرئيس الموقت لكنها في المقابل تسمح باستمرار الفوضى الإعلامية والتي ستؤثر بالسلب في شفافية مناخ الانتخابات ونزاهته، فميديا رجال الأعمال تسعى دائماً وبحكم المصالح إلى التقرب من السلطة، بالتالي تنحاز ومن الآن إلى المرشح الرئاسي الأوفر حظاً في الفوز، كما ستنحاز في المستقبل إلى مرشحي النظام القديم ورجال الأعمال، إذ تلتقي مصالح كل هؤلاء الأطراف، وأيضاً إن صناعة الإعلان والتسويق السياسي ستخضع لمن يدفع أكثر، وفي ظل عدم وجود ضوابط أو رقابة مجتمعية فاعلة، فإن الإعلام بمجمله لن يقدم تغطية متوازنة للمرشحين، ما يؤثر بالسلب في نزاهة الانتخابات وعملية التحول الديموقراطي.

أتمنى أن يبادر الرئيس الموقت إلى إلغاء وزارة الإعلام وتشكيل الهيئات الثلاث المنصوص عليها في الدستور للإشراف على الإعلام حتى يمكن تنظيمه وإعادة الانضباط المهني والأخلاقي إليه قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وأظن أنه مهما كانت سلبيات هذه الخطوة، فإنها أفضل من استمرار فوضى الإعلام وهيمنة رجال الأعمال والإعلان.


* كاتب مصري



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة