الأربعاء ١٤ - ٥ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: آذار ١٢, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
الزمن العربي ضد التاريخ... - كرم الحلو
بات من المسلّم به ان التاريخ يتقدم على رغم كل الاستثناءات والانتكاسات. فقد غدت الحياة الانسانية اكثر رغداً وأكثر أمناً مما كانت عليه في القرون او في العقود الماضية. اصبحت حقوق الانسان من الامور المعترف بها دولياً على رغم الحروب والنزاعات والانتهاكات... صار عمره اطول وصار اكثر معرفة وأكثر امناً في مواجهة الامراض وتحديات الطبيعة. وبالاستناد الى المقياس المركّب الذي اعتمده تقرير التنمية البشرية عام 2013 والذي يضم مؤشرات موزعة على ثلاثة أبعاد: طول العمر، ومستوى التحصيل العلمي، والمقدرة على التحكم بالموارد من اجل عيش افضل وحياة لائقة وكريمة، سجّلت كل البلدان والمناطق تحسناً في عناصر دليل التنمية البشرية كافة، ولم يسجل اي بلد قيمة لدليل التنمية البشرية عام 2012 دون القيمة التي سجلها عام 2000.

لكن وتائر التقدم ليست متساوية لدى هذه البلدان، والمقلق ان العرب هم الاكثر تباطؤاً في تقدمهم قياساً الى العالم المتقدم وحتى الى بعض الدول النامية، على رغم انفتاحهم على الحداثة منذ القرن التاسع عشر. الا ان الاكثر إرباكاً والأكثر اثارة للتساؤل والريبة يبقى في تعامل العرب مع الحداثة في وجوهها كافة، السياسية والاجتماعية والفكرية، مع ان الفكر العربي في مرحلة مبكرة من عصر النهضة العربية تعرّف الى المبادئ والقيم الحداثية وخطا خطوات متقدمة في استيعابها وتمثّلها. من هذه الحقبة بالذات تتغذى جذور اليقظة في تاريخنا، واليها تعود افكار الوطن والمواطن والقومية والدولة الحديثة والحرية والديموقراطية والعلمانية والمساواة الاجتماعية والتفاعل الحضاري مع الغرب والانفتاح على الآخر. لكن الزمن العربي الراهن يبدو وكأنه يتجه ضد التاريخ، فإذا كان الانسان الغربي قد تقدم من الانظمة التيوقراطية الاستبدادية الى الانظمة الدستورية الديموقراطية، ومن الفكر الظلامي الإلغائي الى الفكر الليبرالي الذي يعترف بالآخر ويتعامل معه ندياً، ومن حروب العصائب والصراعات الاهلية الى الدولة الوطنية القومية، فإن الانسان العربي يمضي في الاتجاه المعاكس منقلباً على ما في تاريخه من وجوه مشرقة مضيئة.

في ستينات القرن التاسع عشر، نادى بطرس وسليم البستاني وفرنسيس المراش وإبراهيم اليازجي بالوطنية الجامعة المنزّهة عن التعصب المذهبي. فأسس بطرس البستاني المدرسة الوطنية عام 1863 في بيروت لكل الطوائف والمذاهب باعتبار «الوطن» علة الضم بين طلابها. وفي احتفال وضع حجر الأساس للكلية السورية الانجيلية في بيروت، اي الجامعة الاميركية، قال دانيال بلس: «ان هذه الكلية هي لكل الاحوال ولكل انواع البشر من دون اي اعتبار للون او القومية او الجنس او الدين. فيمكن أي رجل، ابيض كان او اسود او اصفر، مسيحياً كان او يهودياً او مسلماً او وثــــنياً ان يدخل الكلية ويتمتع بكل ما تســـديه من نـــفع ثم يـــخرج منها مؤمناً بإله واحد او غير مؤمن، غير انه يستحيل على احد ان يبقى عندنا طويلاً من دون ان يعلم ما نؤمن انه حق».

بعد اكثر من قرن ونصف قرن على هذه الافكار والمواقف المؤكدة للاعتراف بالآخر، يتقدم الفكر التكفيري ضد التاريخ ليكتسح الساحة السياسية العربية، ممعناً في رفض الآخر وإقصائه، ولو اقتضى ذلك الانتحار والتضحية بالذات. ونرجع ضد التاريخ الى مدارس الطوائف والمذاهب باعتبارها فوق الامة والوطن، ويكفّر المبدعون الخارجون على ما ليس مسموحاً تجاوزه او المساس به في فتاوى الظلاميين. وبعدما كان فرنسيس المراش قد طرح عام 1865 مقومات الدولة الحديثة القائمة على المساواة الكاملة بين المواطنين «من دون ادنى امتياز بين الاشخاص او تفريق بين الاحوال»، يمثُل كثيرون في غير قطر عربي أمام محاكم الملل والجماعات وليس أمام محاكم تجري شرائعها متساوية على الجميع كما حلم المراش.

وبعد اكثر من قرن وربع قرن على نداء اديب اسحق لكي «تكون امة واحدة لا تتعصب إلا لوطنها»، يبدو العالم العربي اقرب ما يكون الى التشرذم شيعاً وطوائف وقبائل تدّعي كل منها احتكار الحق والحقيقة، وتغدو العصبية القبلية فوق العصبية الوطنية والقومية.

وفي حين ارسى فكرنا النهضوي انطلاق المرأة العربية وانخراطها في العمل والإبداع والحياة الاجتماعية، أعلن رفاعة الطهطاوي في ثلاثينات القرن التاسع عشر ان «العمل يصون المرأة ويقرّبها من الفضيلة». وقال بطرس البستاني عام 1849 ان «المرأة لم تخلق لكي تكون بمنزلة صنم يُعبد او أداة زينة تحفظ في البيت... بل يجب ان تكون عضواً يليق بجماعة متمدنة». ورأى قاسم امين ان المرأة يجب ان تربّى على «ان تدخل المجتمع الانساني وهي ذات كاملة».

بدل ان يتقدم العالم العربي في إثبات هذه الاطروحات وتطويرها بما يتلاءم مع حركة التاريخ التي قاربت في الحقوق الاجتماعية والسياسية والانسانية بين الرجل والمرأة، يمعن الزمن العربي في محاصرة المرأة وتعنيفها وفرض الأحكام الجائرة عليها والانتقاص من قدرها ومكانتها احياناً، بضربها وشتمها وصولاً الى قتلها، حتى في لبنان بلد بطرس البستاني بالذات... وفي مقتلة رلى يعقوب ومنال عاصي المأسوية تعبير صارخ ومربك عن توجه الزمن العربي ضد التاريخ. الامر يؤكده تقرير التنمية البشرية عام 2013، اذ اشار الى ان المرأة العربية هي الادنى مشاركة في العمل في العالم كله – 22.8 في المئة قياساً الى العالم 51.3 في المئة – والى انها الاقل مشاركة في المجالس النيابية – 13 في المئة مقابل 20.3 في المئة في العالم – كما ان الفارق شاسع في التحصيل العلمي بينها وبين العالم المتقدم – 31.8 في المئة في العالم العربي مقابل 81.4 في المئة في اوروبا.

وإذ بدأ عالمنا المعاصر يتوجه منذ تسعينات القرن الماضي الى الديموقراطية الليبرالية وإسقاط الانظمة الاستبدادية، ومع ان فكرنا النهضوي قال بالعدل والحرية وبالشورى الدستورية، وبالمراقبة الشديدة للحكام والمحاسبة التي لا تسامح فيها، لا تزال الامة العربية من بين الامم الاكثر معاناة من الاستبداد السياسي، ولا تزال انظمتها تبدو وكأنها عصية على الدمقرطة حتى في بلدان «الربيع العربي» التي تكافح في الدفاع عن وحدتها الوطنية إزاء انحراف الحراك الديموقراطي نحو النزاعات العصبوية والحرب الاهلية.

أليس في هذه الحقائق والمؤشرات ما يدعو الى اعادة النظر في توجهاتنا السياسية والاجتماعية والايديولوجية والعمل جدياً على نقد انماطنا التنموية والفكرية وشكل تعاملنا مع الحداثة بما يجسر الهوة بيننا وبين التاريخ ويدرجنا في حراكه، فلا نبقى على خصام معه وفي غربة عن مساره.


* كاتب لبناني



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة