تنطلق إشكالية البحث في علم التاريخ على قاعدة انتقاله من الرواية إلى علمٍ له ركائزه، ومناهجه، وطرقه البحثية الدائمة التطور. بات لهذا العلم أهداف معلنة حول الإفادة من دروس الماضي لبناء الحاضر في اتجاه مستقبل أفضل. وينبني على تعدد المناهج لدراسة الظاهرة التاريخية، وتنوع الوثائق والمصادر، واللغات، والتحليل النقدي المسند إلى تنوع المقولات النظرية، واستخلاص النتائج العلمية لبناء مجتمع المعرفة القادر على مواجهة تحديات عصر العولمة.
تتناول الإشكالية في جانبها النظري قضايا ذات صلة بالمنهج العلمي في دراسة التطور الاجتماعي، بالتزامن مع التطور العاصف للعلوم الإنسانية وعلوم التواصل، والتطور التكنولوجي. وقد ساهمت تلك الثورات في فتح آفاق جديدة أمام البحث العلمي في مجالات التوثيق، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في تحليل المعلومات، ووضع الجداول الإحصائية، والبيانات التوضيحية، واستخراج النسب المئوية وغيرها. لم تعد الدراسات الانسانية تتجاهل الجوانب الاقتصادية، والمناهج المساعدة للبحث في مجال علم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، وغيرها من العلوم الإنسانية التي فتحت آفاقا جديدة للكتابة العلمية على أسس عقلانية، أكثر دقة وموضوعية.
فرضت تلك التبدلات الإيجابية على المؤرخ احترام الحقائق التاريخية بالعودة إلى المصادر الموثوق بها، وإظهار تطور الأوضاع الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في جميع المناطق ولدى جميع الفئات السكانية. بالإضافة إلى إظهار الترابط الوثيق بين التاريخ المحلي والتاريخ الإقليمي والعالمي، وعدم إسقاط الجوانب السلبية داخل كل دولة أو تجاهلها، بل معالجتها بموضوعية، وبروح علمية عالية وبحس وطني لتعزيز العيش المشترك بين جمع المواطنين، على اختلاف طوائفهم ومناطقهم وميولهم السياسية، وأوضاعهم الاقتصادية والإجتماعية.
في جانبها التطبيقي المتعلق بالدراسات التاريخية عن تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، يؤكد البحث ضرورة تقديم دراسات تاريخية علمية تتناول التعددية والتنوع في لبنان وفق إشكاليات نظرية متنوعة أبرزها: دراسة التوزع الجغرافي لسكن الجماعات أو الطوائف في المقاطعات اللبنانية، وإبراز دور القوى السياسية اللبنانية في تطوير الدراسات الانسانية أو إعاقتها، ودراسة المسألة الوطنية اللبنانية في محيطها العربي والدولي، والتركيز على دور الثقافة في بناء مجتمع المعرفة والتنمية السياسية في لبنان، وغيرها.
كيف نقرأ تاريخ المجتمع اللبناني في مطلع القرن الحادي والعشرين؟ لقد عانى اللبنانيون طويلاً من نظام طائفي تسلطي في الداخل، واحتلال أجنبي من الخارج. وقاموا بثورات وحركات احتجاج متواصلة ضد السيطرة العثمانية الطويلة، وضد الإنتداب الفرنسي، وضد إسرائيل، وضد الوجود السوري، وضد التدخل الفلسطيني في الشؤون الداخلية اللبنانية، وضد مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يشرع التدخل الخارجي على نطاق واسع في لبنان وجميع دول المنطقة. هذا يطرح مسألة نظرية على غاية في الأهمية، هي: كيف نقرأ تاريخ المجتمع اللبناني الحديث والمعاصر في مطلع القرن الحادي والعشرين؟ تتفرع عنها أسئلة منهجية كثيرة حول كيفية كتابة الدراسات الانسانية وفق منهجية التاريخ الإجتماعي التي تركز على أن المجتمع في حركة دائمة تتضمن احتمالات لا حصر لها. تتطلب الدراسات الإنسانية في هذا المجال التركيز على دراسة البنى السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية اللبنانية بشكل معمق وبالإستناد إلى التوثيق الجيد، والتحليل العلمي، والفرضيات النظرية المسندة إلى مصادر أصيلة، والاستنتاجات العقلانية التي تساعد على فهم تطور المجتمع اللبناني في مختلف حقبه، والافادة من البحوث الأكاديمية العالمية المنشورة عن لبنان بلغات عالمية.
يحتاج المؤرخ اليوم إلى معرفة مناهج البحث العلمي، ولغات حية، والتدرب على إعداد الجداول العلمية وطرق الافادة منها، وكيفية تحويل المقابلة الشفوية إلى نص مكتوب يستفيد منه الآخرون. ويطلب إليه القيام بدورات تدريبية مكثفة تمكّنه من استخدام الكومبيوتر، والأنترنت، وغيرهما من وسائل التكنولوجيا الحديثة التي تسهل عمله وتوفر الكثير من وقته في إعداد البحث العلمي وإخراجه بشكل متميز. بالإضافة إلى تملكه لأدواته المعرفية، وتمسكه بأولوية الوثائق والمصادر والمراجع العلمية، وحرصه على سلامة اللغة، وتنوع اللغات المستخدمة، والإعتماد دوما على التحليل وليس السرد وصولا إلى استنتاجات علمية جديدة قابلة للتعميم. ولا تستقيم إشكالياته النظرية إلا باعتماده على المنهج النقدي في البحث التاريخي.
عليه أولاً، التعريف بمنهجه العلمي مع التحديد الدقيق لمضامين المفاهيم المستخدمة في الكتابات التاريخية المعاصرة كالتحديث، والحداثة، والتغريب، والتبعية، والقومية، والوطنية، والثورة، والإستقلال، والسيادة، وغيرها. عليه ثانياً، التنبه إلى مغالط المؤرخين بالمفهوم الخلدوني. وعليه ثالثاً، أن يحذر الاقتباس السهل لمناهج، ومفاهيم ومقولات غربية يتم إعتمادها بصورة عشوائية من دون تحديد دقيق أو نقد منهجي لصدقية مضامينها. ومن أول واجبات المؤرخ الإجتماعي، البحث المعمق لاستنباط مقولات نظرية جديدة تساهم في تحليل أعمق لسيرورة حركة التطور التي مرت بها المنطقة العربية. ولا ينال بحثه موقعاً متقدماً في حركة التأريخ العلمي ما لم يقدم معطيات تاريخية جديدة مستندة إلى إحصائيات دقيقة تبرز مشكلات التواصل والانقطاع في حركات التحديث والتحرر التي شهدتها الدول العربية الحديثة، وتحليل أسباب إخفاقاتها المستمرة، ورفض المقولات الجاهزة المقتبسة عن مناهج الإستشراق الغربي التي تبرر قيام أنظمة استبدادية تمارس أشكالا من السلطة القمعية التي لم تتبدل كثيرا عما كانت عليه في القرون الوسطى.
لا يستقيم مسار الدراسات التاريخية المعاصرة إلا بتقديم نماذج بحثية جديدة في جوانب التحديث السياسي والاقتصادي والإجتماعي التي شهدتها الدول العربية المستقلة في النصف الثاني من القرن العشرين. علما أن عددا من المؤرخين المعاصرين يمارسون هواية التنظير المعرفي، والتركيز على دور الأبستمولوجي، من دون تقديم دراسات علمية ترتقي بالبحث إلى مستوى علم التاريخ. فإثبات صدقية المقولات النظرية يتطلب دراسات علمية موثقة وجادة، تبنى على التوصيف الشمولي والدقيق للأحداث التاريخية، وتعميق البحث في مشكلات الإصلاح، وتقديم تحليل دقيق للأسباب التي أدت إلى مأزق التحديث الذي تعيشه الدول العربية، ومنها لبنان، بعد مرور قرابة قرنين من الزمن على بداية النهضة العربية الأولى. علماً أن حركة التطور التي أحدثتها ثورات التحرر في المجتمعات العربية لم تستند إلى مفاهيم نظرية لبناء حداثة سليمة، فهي سيرورة معقدة جداً لم تفض إلى النتائج الإيجابية المرجوة ولم تستفد من المقولات النظرية لتجارب التحديث الناجحة في مناطق أخرى من العالم، التي أكدت أن غاية التحديث هي الحداثة المكتملة التي تقود كل مرحلة فيها إلى مرحلة أرقى على غرار نظرية ابن خلدون بأن التحضر هو غاية البداوة. فالبداوة المستقرة تقود إلى التحضر الذي هو غاية العمران البشري. كذلك تقود عملية التحديث المستمر، إلى حداثة سليمة تؤسس لمراحل منجزة ومتصاعدة وفق شروط موضوعية تختلف نوعياً عما كانت عليه عملية التحديث الأولى.
في هذا الجانب، لا بد من الإعتراف بأن المنهجية المعتمدة حتى الآن في غالبية الدراسات التاريخية اللبنانية، لم تساهم جدياً في تصويب مسار البحث عن تاريخ لبنان طوال العقود الماضية. هذه مسألة منهجية ملحة تتطلب إعادة النظر في كيفية كتابة تاريخ لبنان التي تمت وفق منهج طائفي يرسم تطور الأحداث التاريخية ضمن دائرة طوائفية شبه مغلقة. وقد بان عجز هذا المنهج بوضوح في كتابة تاريخ المجتمع اللبناني على أسس علمية لأنه قاصر عن تحليل الدينامية التي تميز بها تاريخ لبنان وتقديم دراسات علمية ترسم دور اللبنانيين الفاعل في محيطهم العربي في مختلف حقب التاريخ.
نتيجة لذلك، اصبحت الدراسات المسندة إلى المنهج الطوائفي، بشقيه الديني والسياسي، لا تستقطب المؤرخين المتنورين الشباب، وبشكل خاص في حقلي علم التاريخ وعلم الإناسة أو الأنتروبولوجيا. ليس الحضور الفاعل والمستمر للمنهج الطائفي في صفوف المؤرخين اللبنانين اليوم دليل عافية بل مؤشر إلى عمق الأزمة الثقافية في مجال البحث العلمي في تاريخ لبنان، وهي مرشحة للإستمرار عقوداً إضافية.
لقد بلورت تلك الإشكاليات مجتمعةً، الموروث التاريخي العلمي للدراسات اللبنانية على ضوء تداخل عوامل متعددة ساهمت في تطوير أو إعاقة المجتمع اللبناني الحديث، مما جعل الدراسات التاريخية في لبنان تتأرجح بين إشكاليات بنيت على مرويات طوائفية وحيدة الجانب وأنتجت دراسات عدة في تاريخ لبنان السياسي والإقتصادي والإجتماعي والمديني والريفي والثقافي، وإشكاليات علمية بنيت على وثائق علمية رصينة مستقاة من مراكز الأرشيف المحلي والدولي وتجاوزت مرويات الطوائف إلى علم التاريخ.
لم تعد الدراسات اللبنانية ذات المنحى الطوائفي تقدم معطيات علمية رصينة لأنها استندت إلى منهجية غير علمية، في حين ترتدي الدراسات العلمية غير الطائفية أهمية خاصة في تحليل الجذور العميقة لولادة التيارات السياسية والثقافية العقلانية في لبنان، وبروز إشكاليات نظرية متجددة باستمرار. لعب المتنورون من المؤرخين الإجتماعيين اللبنانيين دوراً بارزاً في تكوين الرأي العام العلمي في لبنان والعالم العربي من خلال جامعات عصرية متطورة لا تزال تعمل في لبنان منذ أكثر من قرن ونصف القرن وإلى جانبها مدارس عصرية محلية، ومدارس للإرساليات، ودور للنشر كانت الأكثر نشاطا في دنيا العرب، وصحافة حرة، وطباعة ناشطة، وفنون متميزة، فأعطت لبنان مجتمعةً، طابع الريادة في مجالات ثقافية متنوعة.
تعرية زيف الإيديولوجيا أخيرا، من واجبات المؤرخ العلمي في تاريخ لبنان أن يعرّي زيف الإيديولوجيا الطوائفية ومقولاتها النظرية التي ساهمت في تشويه الوعي التاريخي لدى اللبنانيين وتركت بلبلة ثقافية عميقة في نظرتهم إلى تاريخ وطنهم. وهي تتطلب تصويباً علمياً من خلال نشر دراسات تاريخية جادة وموثقة لإعادة التواصل الثقافي بين أجيال متعاقبة من اللبنانيين عاشوا مأساة حروب ونزاعات داخلية متلاحقة. في المقابل، لا تزال الدراسات التاريخية اللبنانية المسندة إلى المنهج الطوائفي تستخدم شعارات شعبوية تدغدغ عواطف الجماهير عبر مقولات دينية وإيديولوجية تكتفي بقراءة سطحية للأحداث التاريخية ولا تقدم تحليلاً علمياً معمقاً لحركة التاريخ اللبناني وإحتمالاتها المستقبلية. الفارق كبير بين كتابة التاريخ بمنهج طوائفي كما يراه عدد كبير من المؤرخين اللبنانيين المؤدلجين، وبين تحليل تاريخ لبنان واللبنانيين بمنهج جدلي عقلاني كما يراه المؤرخون الإجتماعيون منهم. يكمن الفارق الجذري بينهما في أن المنهج الطوائفي يبني الكتابة التاريخية على روايات شعبوية غير مسندة في غالب الأحيان، في حين يستند المنهج التحليلي إلى الوثائق والمصادر الأصلية، ويتخذ من الفكر العلمي النقدي أداة لتحليل أحداث التاريخ بصورة شمولية، والتعامل معها بدقة وموضوعية. فالمؤرخ الإجتماعي يشدد على إبراز حركة التاريخ واحتمالاتها الكثيرة، ويرفض حصره في فضاء طائفي ضيق، أو ماضوي متخيل، أو الإعلان عن نهاية التاريخ.
ختاما، ليس من شك في أن الإشكالية الأساسية في الدراسات التاريخية تكمن في إبراز حركة التاريخ على أنها حركة مستمرة لا يستطيع أحد وقفها وفق رغبات ذاتية أو بالدعوة إلى تمجيد العصر الذهبي. كما أن الإشكالية التي تقوم على أدلجة الماضي تسيء كثيرا إلى الكتابة التاريخية العلمية لأنها تساهم في ترسيخ إشكالية "التاريخ العبء"، على حساب إشكالية "التاريخ الحافز". وهي تعوق ولادة الإشكاليات العلمية النقدية وتطورها، التي لا غنى عنها في تقديم دراسات تاريخية متطورة بإستمرار. وقديما قال حكماء العرب: "من يدرس التاريخ يضيف أعماراً إلى عمره". فالتاريخ لدى إبن خلدون هو "كتاب العبر". وعلم التاريخ يقدم دروسا مستفادة للأجيال المتعاقبة كما قال هيغل في كتابه "دروس في فلسفة التاريخ". وأثبت المنهج النقدي أنه الأكثر قدرة بين باقي المناهج الأخرى في تحليل حركة التاريخ العربي عبر مسيرتها المعقدة. لذا حرص المؤرخون الإجتماعيون في لبنان والعالم العربي على استنباط إشكاليات علمية جديدة ساهمت في إنقاذ الكتابة التاريخية من المرويات الطوائفية والقبلية والزعاماتية والأسرية إلى التاريخ الإجتماعي، فأسست لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان والعرب تتميز بالدقة والموضوعية في مجال علم التاريخ.
|