تعود نشأة تاريخ خطاب البربرية في مواجهة الحضارة إلى القرن التاسع عشر الذي شهد حملات استعمارية متعددة قامت بها دول أوروبية، في مقدمها إنكلترا وفرنسا وإيطاليا على بلاد عربية شتى.
وقد عمد المفكرون في العصر الاستعماري إلى صياغة خطاب لتبرير الاستعمار من وجهة النظر الأخلاقية ولذلك ابتدعوا نظرية «عبء الرجل الأبيض» The White Man’s Burden وتعني المسؤولية التي تقع على عاتق البيض لترقية وتحضير البرابرة وهم سكان الدول التي خضعت للاستعمار الأوروبي والذين هم ليسوا أوروبيين وليسوا بِيضاً.
وتكشف الباحثة إيلين سبرنغ بجسارة نقدية، الأسباب الكامنة وراء صياغة خطاب «البربرية والحضارة» باعتباره كان في الواقع تغطية للحروب الإمبريالية التي قامت بها الدول الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر نتيجة للتنافس في ما بينها من ناحية، وتحت تأثير الضغوط الاقتصادية داخل هذه البلاد، بالإضافة إلى رغبتها في غزو البلاد المستعمَرة بحثاً وراء الفوائد الاقتصادية، ومن أجل نشر ديانتها وثقافاتها ولو أدى ذلك إلى محو الهوية الوطنية لبعض البلاد المستعمَرة.
ويمكن القول إن خطاب البربرية والحضارة الذي ذاع طوال القرن التاسع عشر، مصاحباً للاستعمار الغربي ومبرراً له، وصل إلى منتهاه في الخمسينات حين وصلت الحقبة الاستعمارية إلى نهايتها. وتقرر - خصوصاً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وإنشاء هيئة الأمم المتحدة - تحرير الشعوب المستعمرة والذي أطلق عليه decolonization والذي ترتب عليه حصول العديد من الدول المحتلة أو المستعمَرة، سواء الدول العربية أو الدول الأفريقية، على الاستقلال ونشأة دول وطنية متعددة.
وهكذا توارى إلى الظل خطاب البربرية والحضارة والذي ساد طوال العصر الاستعماري، ولم يظهر من جديد إلا بعد الهجوم الإرهابي لتنظيم «القاعدة» على الولايات المتحدة الأميركية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
ويمكن القول من دون مبالغة إن هذا الهجوم الإرهابي الذي قامت به مجموعة إرهابية تنتمي لتنظيم «القاعدة» - كما صرح أسامة بن لادن بعد الهجوم - يمثل قطيعة تاريخية في مسار العالم.
بمعنى أن العالم لم يعد كما كان قبل وقوع هذا الهجوم الإرهابي الذي لا سابقة له. وذلك لأن الإرهاب الذي شنته من قبل تنظيمات جهادية إسلامية إرهابية ضد دول مختلفة كان محدوداً ولم يترتب عليه إلا عدد محدود من الضحايا. غير أن هذا الهجوم الإرهابي الخطير اتسم بأنه للمرة الأولى وجّه إلى مراكز القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لدولة عظمى هي الولايات المتحدة الأميركية، كان يظن من قبل أنها أشبه بقلعة منيعة يصعب اختراقها حتى من قبل دولة عظمى منافسة مثل الاتحاد السوفياتي.
وقد أدركت منذ قيامي بتحليل الخطابات السياسية لقادة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والتي تلت الهجوم أن رد الفعل تضمن بعثاً لخطاب البربرية والحضارة القديم الذي ظننا أنه انتهى منذ الخمسينات بزوال الحقبة الاستعمارية.
وقد أتيح لي أن أشاهد مباشرة على شاشة التلفزيون خطابات القادة الثلاثة جورج بوش وجاك شيراك وتوني بلير، واستخلصت عدداً من الملاحظات المهمة في ضوء تحليل مضمون هذه الخطابات.
ومما يؤكد استخلاصنا الأساسي أن الأحداث الإرهابية في 11 أيلول (سبتمبر) كانت هي الشرارة التي أطلقت من جديد خطاب البربرية والهيمنة كما ورد في رسالة الدكتوراه التي كتبها الباحث الألماني رومي وهلرت Romy Wihlert والمنشورة على شبكة الإنترنت وعنوانها «الحضارة في مواجهة البربرية: صورة العرب والمسلمين وصور الذات القومية في وسائل الإعلام المقروءة في ألمانيا والولايات المتحدة حول 11/9» (تاريخ إعداد الرسالة 2007). وهذه الرسالة هي من أعمق البحوث التي اطلعت عليها في موضوعها.
وقد أكد هذا الباحث النابغ في مقدمة رسالته ما استخلصناه من تحليل مضمون خطابات الرؤساء كرد فعل على أحداث سبتمبر ما سبق أن قررناه من أن خطاب «البربرية والحضارة» كان بارزاً في هذه الخطابات السياسية، والتي كانت رد فعل مباشراً على الحادث الإرهابي.
وقد قمت أخيراً – لمناسبة بربرية سلوك تنظيم «داعش» الإرهابي- ببحث معمق عن أصداء هذا السلوك في الدوائر الفكرية الغربية.
وتبين لي أن هناك مفهوماً غربياً ناشئاً – ربما كان رد فعل على الفظائع التي يرتكبها تنظيم «داعش» والتي تتمثل في قطع رؤوس الرهائن أو إحراقهم أو إغراقهم –هو البربرية الجديدة New barbarism وهو مفهوم يبرئ السلوك الغربي من ارتكاب الجرائم ضد الشعوب، ويوحي بأن البربرية القديمة التي شاعت في القرون الوسطى في فترات تاريخية معينة عادت من جديد على يد الجماعات الإرهابية الإسلامية وفي مقدمها تنظيم «داعش».
غير أن هذه النظرة التي تتحاشى الإشارة المباشرة إلى تاريخ البربرية الأوروبية التي مارستها دول غربية شتى تدعي أنها ممثلة للحضارة ضد الشعوب المستعمرة، وجدت نقداً عنيفاً لها من قبل بعض الكتاب الغربيين ممن يتحلون بالموضوعية والقدرة على النقد الذاتي.
ومن أبرز هؤلاء النقاد، جاك مارتان الذي ينتقد مباشرة أوروبا التي تصور أنها مثال للحضارة مع أن حقيقتها في الواقع أنها كما كانت مهد الحضارة فقد كانت أيضاً مهد البربرية والعنصرية والتطهير العرقي، مع أنها كانت أيضاً مهد النهضة والديموقراطية. ويضيف أن العنصرية والفاشية جزء من تاريخ أوروبا لا مجال لإنكاره. ولكي يدلل على أن أوروبا تدخل في عصر ظلامي جديد، يشير إلى صعود الأحزاب العنصرية التي تمثل اليمين المتطرف في حكومات النمسا والدنمارك وإيطاليا وكذلك في فرنسا وهولندا وسويسرا والنروج وبلجيكا.
وهو يحاول تحليل أسباب العنصرية الأوروبية المعاصرة ويحددها بثلاثة أسباب رئيسية. أولاً، ضعف اليسار الأوروبي، وثانياً انهيار الديموقراطية كنظام سياسي ثبت أنها لا تعبر حقيقة عن الشعوب، خصوصاً بعد أن وصلت الديموقراطية النيابية إلى منتهاها وثبت أنها صبغة سياسية عقيمة، وثالثاً بسبب تزايد موجات الهجرة من بلاد غير أوروبية وما تمثله - في نظر اليمين- من تهديد للهوية الثقافية الأوروبية.
غير أنه في مقابل جسارة النقد الذاتي الذي يمارسه عدد من المفكرين الأوروبيين الذين لا يتوانون عن نقد السلوك الغربي ويستنكرون في الوقت نفسه التهم الثقافية التي تطلق جزافاً وتوجه إلى الإسلام كدين والمسلمين كشعوب، فإننا نجد كتاباً عرباً ينبرون للدفاع المطلق عن السلوك الإسلامي حتى لو كان سلوكاً متطرفاً أو إرهابياً أو حتى بربرياً، كما يمثله سلوك الخلافة الإسلامية «الداعشية».
إلا أننا إذا تركنا جانباً تاريخ البربرية القديم أو تاريخها الحديث المرتبط بالاستعمار الغربي في تعامله مع الشعوب المستعمرة، فمما لا شك فيه – كما قرر جاك مارتان- أن هناك في الغرب الآن عنصرية في مجال التعامل مع المهاجرين المسلمين إلى أوروبا، ولعل بروز موجات الرفض العنيفة لسيل المهاجرين العرب الهاربين من فظائع الحروب الدامية المشتعلة في سورية والعراق يؤكد أن العنصرية لها جذور عميقة في بعض الدوائر السياسية والاجتماعية الغربية.
ومما لا شك فيه أن السلوك المتحضر لألمانيا بقيادة انغيلا مركل في ترحيبها باستقبال عشرات الآلاف من المهاجرين العرب، يدل على أن هناك صراعاً حاداً بين العنصرية من ناحية والنزعة الإنسانية من ناحية أخرى.
غير أنه لو تركنا المشهد الأوروبي جانباً بكل مواريثه الثقافية التاريخية من أول نظرية «عبء الرجل الأبيض» حتى العنصرية وولينا وجوهنا إلى العالم الإسلامي، لوجدنا تنظيراً إرهابياً مباشراً لشرعية «البربرية» التي تمارسها جماعات تكفيرية مثل تنظيم «القاعدة» وأخيراً نمط «الخلافة الإسلامية الداعشية».
ويتمثل هذا التنظير الخطير في كتاب ألفه أحد منظري تنظيم «القاعدة» وهو أبو بكر ناجي وهو اسم حركي لمحمد خليل الحواكمة وعنوانه «إدارة التوحش»، ينظر فيه إلى ما يسمى «إدارة الفوضى غير المنظمة» أو ما يطلق عليه «إدارة التوحش» باعتبارها مرحلة ضرورية لتمكين الجماعات الإسلامية «الجهادية» من السيطرة على المجتمعات، تمهيداً لمرحلة التمكين والتي تتمثل في إقامة «الخلافة الإسلامية».
ألا يمثل هذا الكتاب الذي صدر عام 2004 استباقاً خطيراً لسلوك «الخلافة الإسلامية الداعشية» التي يرأسها أبو بكر البغدادي، وإضفاء الشرعية على النمط الذي يمثله؟
لا بد من أن نعرض في مقال قادم محتوى هذا الكتاب الخطير الذي يقنن البربرية المعاصرة!
* كاتب مصري. |