ثلاثة أشهر على انطلاق الحراك المدني، وما زالت النفايات في الشوارع، والوزراء في مكاتبهم، ولمن أراد إسقاط النظام، فإن النظام في مكانه. عاد وهم ترحيل النفايات، ومعه السجالات العقيمة عن ميثاقية جلسات مجلس النواب. وتحضيراً للجلسة، أُصلحت واجهة الفندق وأعيد تركيب إشارات المرور التي تضررت جراء التظاهرات. ولتأكيد أن لا شيء حدث أو أن ما حدث قد انتهى، ركض أكثر من أربعين ألف لبناني ولبنانية في ساحة الاعتصامات، مؤكدين «طبيعية» حياتهم ولو في النفايات. وحول الساحات التي عادت إلى فراغها المعتاد، ما زال بعض الشبان ينتظرون محاكمتهم أمام محاكم عسكرية لإقلاقهم راحة الحياة الطبيعية، وهناك سياسيون ينتقمون من إعلاميين أو ناشطين «تطاولوا» عليهم.
لا شيء إذاً حدث في آب (أغسطس) إلا وتمكن إعادة تدويره لتعود الحياة اليومية إلى طبيعتها.
لكن شيئاً ما حدث في النصف الثاني من الصيف، يجعل العودة إلى ما كان قبله مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة. فخلال أسبوع في آب، توقفت وتيرة الحياة أو تباطأت لتظهر عمق الأزمة التي وصلت إليها البلاد والتكاذب الذي باتت تختلف طرقه في التأقلم معها. وفي هذه الفسحة من الوقت، خرجت سياسة من نوع آخر عن هامشيتها المعتادة لتحتل الساحات والاهتمامات وتفضح فراغ القيّمين على الوضع.
خلال تلك الأيام المعدودة، صُدمت سلطة توحّدت بعد سنوات من الانقسام، وتراجعت وهي موحّدة أمام أفراد كانت اعتادت وهي مقسومة على تجاهلهم. ولساعات قليلة، بدت هناك امكانية لتجمعات وعلاقات وتحالفات وروابط من نوع آخر، وأنها قد تقطع مع النمط السائد للعلاقات. حدث هذا كله في أسبوع واحد، قبل أن تعود «الحياة الطبيعية» وتطالب بحقوقها، إما خوفاً من العنف أو اعتراضاً على فقدان البرامج أو لأنّها استثمرت الكثير للتأقلم مع الواقع، وباتت غير قادرة على مواجهة فكرة أن استثمارها خاسر.
لم يكن هناك الكثير الذي يمكن القيام به لتفادي عودة الحياة الطبيعية أو لتمديد فترة التعطيل التي شكّلها الحراك. فهذا الحدث لم يكن لاعباً أو فاعلاً أو جسماً، تمكن مطالبته بتنظيم نفسه أو ابتكار أفكار وحلول أو تحقيق إنجازات. كان مجرّد فسحة زمانية علّقت لبضعة أيام المسار الانحداري للبلاد، أو عطلة قصيرة من حركة الحياة الطبيعية، أو تجميداً في الهواء لعملية السقوط إلى القعر. بكلام آخر، كان الحراك تعليقاً للتاريخ الانحداري وليس قطيعة معه. وربّما كان من طالب الحراك بالتحوّل إلى فاعل منظّم ومُنجز هو الذي يجهل وطأة التاريخ وصعوبة إنتاج الجديد انطلاقاً من حالة العفن الراهنة.
بهذا المعنى، فالحراك جزء من الأزمة، وليس خارجها أو مُصلحها. إنه مرحلة تأتي بعد أزمة المؤسسات وقبل أزمة جديدة، مرحلة زمنية عمّقت القطيعة مع النظام في أزمة شرعيته.
بيد أنّ تجميد الزمن لم يكن مجرّد عطلة يعود بعدها الجميع إلى حياتهم الطبيعية، أو محاولة لكسر إيقاع انحداري، يعود من بعده السقوط بوتيرته السابقة. فقد يكون الحراك في جوانبه الكثيرة آخر محاولة للتأقلم مع النظام اللبناني المتحجّر أو آخر حراك في جمهورية ما بعد الحرب الأهلية. واستطراداً، قد لا تكون ضحيته الأساسية سلطة خرجت من هذه التجربة أكثر عرياً، بل المقولات الإصلاحية والاحتجاجية عليها التي واكبتها لسنوات، إن لم يكن لعقود، والتي تبين أنّها محاولات لتطمين البال وإراحة الضمير، أكثر مما هي مقاربات سياسية قد تشكّل اعتراضاً على السلطة. وإذا كان من جديد في هذا الأسبوع، فهو أنّ ما من جديد ممكن طالما لا تتمّ إعادة ابتكار مفهوم الاعتراض والاصلاح. الحراك هو، في مكان ما، إعادة ترتيب للمنزل المعارض، أكثر مما هو تهديد لسلطة باتت تبرر نفسها من خلال خطابات الإحتجاج القديمة.
وفي تجميده للحركة المعهودة، فضح الحراك فراغ ما عرف بالإصلاح في لبنان ومؤتمراته ومبادراته وتجمعاته. فأظهر أن «الطريقة الإصلاحية»، وهي الفرضية الضمنية لجيوش الخبراء وآلاف الجمعيات، باتت طريقاً مسدودة في ظل وجود دولة غير قادرة على إصلاح ذاتها، مهما حاولت. وأن لا يستطيع التوافق الاستثنائي للقيّمين على الوضع حل مسألة تطاول جماهيرهم، فهذا يدّل على حالة من الاهتراء لم تعد قابلة للإصلاح.
ولسوف يبقى القطاع المصرفي والدولة في شقها المالي آخر من يغرق في النفايات، ولكنْ حتى من يبحث عن عقلانية ما في الرأسمالية، لن يجدها في آخر المطاف.
كما أن الحراك أظهر عقم الكلام عن عملية تراكم قد تنتج «خياراً ثالثاً» يطمح إلى الحكم في وجه الثنائية الحاكمة. فعلى رغم «الرومنسية» التي طاولت المناطق أو بعض الطبقات المهمّشة التي شاركت في الحراك، (وهنا يجب الإشارة إلى أن ممثلي الطبقات المهمّشة أو المتكلّمين باسمهم كانوا أكثر عدداً من أفراد هذه الطبقات)، عاد الحاجز الذي يقف سداً منيعاً بين تحركات كهذه والفئات الشعبية الأوسع. كما أشار الحراك إلى استحالة ثالثة، أي المقاربة التوافقية، التي تأخذ الأحزاب الراهنة كمحاور في عملية إعادة إنتاج السياسة أو الجسم الذي يفترض أن يحمل أفكار الآخرين. فالأحزاب باتت جزءاً من الأزمة، ليس من باب أخلاقي فحسب، أي كأطراف مشاركة في الحكم، ولكن لكونها أجساماً فاقدة أية حيوية سياسية أو فكرية، خارج التأطير الزبائني.
فلمن يبحث عن إنجازات في الحراك، فإنه لن يجدها. ولكن لمن يبحث عن مفاعيل لهذه الفترة الزمنية أو لفسحة تجميد الزمن، فسيجدها في حالة إعلان الإفلاس العام وأزمة الشرعية. فالكلام عن تسييس الحراك، بهذا المعنى، سابق لأوانه ومتأخر عنه في آن. والسؤال الفعلي، هو عن التسييس ما بعد الحراك، أو التسييس ما بعد فضح مقولات الاعتراض القديمة وتراتيل الإصلاح الفارغة. أما أحد مفاعيل هذا الفضح فقد يكون في تسريع وتيرة السقوط نحو القعر. فالحقيقة قد تحرر ربّما، لكنّها لا تطمئن. |