ثمة شيء ما غير طبيعي في علاقة بعض العرب بالإرهاب، وفي ردود فعلهم تجاه العمليات الإرهابية. ولا أقصد هنا المواقف الرسمية أو كتابات الصحف المشهورة، وإنما المواقف التلقائية التي أصبحت مفضوحة على شبكات التواصل الاجتماعي، وهي تمثل المواقف التلقائية، وبالتالي الأكثر مصداقية وتعبيراً عن مواقف أصحابها ومجتمعاتهم.
أتذكّر أنني سمعت مرّة المرحوم مصطفى محمود يقول: عندما يسقط صاروخ فإن الناس في العالم يأسفون، لكن في العالم العربي يشعر كثر بالارتياح لأنّ الصاروخ لم يصل إلى كوكب القمر. هذا كلام كان قد قاله في عصر التنافس على صناعة الصواريخ وغزو الفضاء، واعتقد أنّه كلام يمكن سحبه على عالم اليوم، الذي أصبح التنافس فيه على قتل البشر وترهيبهم: في العالم كلّه يحزن الناس لسقوط الموتى والجرحى من الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالدوافع والخلفيات التي حركت الإرهابيين، إلاّ في المجتمعات العربية التي يكثر التذاكي فيها مع كل فاجعة إرهابية، ويتحوّل الجميع محلّلين في شؤون الإرهاب عالمين بخفاياه.
جزء كبير من الترهات «العربية» في الإرهاب لا يقلّ شناعة عن الإرهاب ذاته. سأضرب صفحاً عن اتهام اليهود، منذ عبد بن سبأ إلى نتانياهو، بأنهم وراء كلّ ما يصيب العرب والمسلمين. وسأتجاهل أشياء كثيرة سمعتها أخيراً أو قرأتـــها تجعلني أتساءل ما إذا كان من المفـــيد أصلاً أن يواصل الإنسان فعل الكتابة والثقافة في عالم يغلب فيه العمى والصـــمم. سأكتفي ببعض المساءلات الأكثــــر عقلانية في الخطاب الغبـــائي العام حول الإرهاب: لماذا نحزن لضحايا باريس ولا نحزن لضحايا سورية؟ لماذا تصبح تفجيرات باريـس قــضـــية عـــالـــمية وتظلّ تفجيرات الضاحية الجنوبية في بيروت (أو عملية سيدي بوزيد بتونس) قضـــية محلية؟ لماذا خلّصوا العراق من صــــدام حسن ولا يريدون تخليص سورية مــــن بشار الأسد؟ لماذا يصرّون على ربط الإرهاب بالمسلمين ونعته بالإسلامي؟
أسئلة تشكيكية وتبريرية، ماكرة وتافهة ولئيمة.
هل للمواطنين الفرنسيين الذين قتلوا أو جرحوا يوم 13/11 مسؤولية ما في ما يحدث في سورية أو لهم علاقة ببشار الأسد أو بـ «داعش»؟ وهل الوجود العسكري الفرنسي هناك دعم لأحد هذين الطرفين المتنافسين على تقتيل الشعب السوري أم محاولة للتخفيف من شرّهما معاً؟ ما المطلوب من فرنسا، ومن الغرب عموماً؟ إذا غاب التدخّل قيل أنّ الغرب لا يشعر بمأساة الشعوب العربية، وإذا جاء التدخّل قيل أن الإرهاب جزاء عادل على تدخّل الغربيين في الشؤون العربية. ألسنا نحن، العرب، في النهاية، الطرف الذي لا يعرف ما يريد، فيدين الوضع ونقيضه لأنه يحمّل الآخرين أوزار عجزه؟
لماذا تشتهر أحداث دون أخرى؟ السبب بسيط، وهو أنّ تكرّر الأحداث في السياق الواحد يحوّلها إلى أحداث رتيبة، فلا تحدث ردود فعل بقوّة كما يحدث عندما تكون أحداثاً غير مسبوقة. لكن ذلك لا يغيّر طبيعة الحكم عليها. وعندما يضرب الإرهاب في باريس، فذلك يعني أنه سيكون أقدر على ضرب العواصم العربية التي هي أقلّ حماية من باريس، فالحزن على ضحايا باريس حزن علينا أيضاً، فقد ارتفع التهديد درجة إضافية منذ يوم 13/11.
لماذا صدّام وليس بشار؟ سؤال قد نفهم صدوره عاطفياً من مواطن سوري رأى بلده يدمّر أمام عينيه، لكنه سؤال تافه من محلّل يفترض منه الحدّ الأدنى من الموضوعية. صدام حسين لم يكن مسنوداً من أطراف داخلية ولا خارجية، لذلك سقط نظامه بسهولة، بشار الأسد مسنود من قوتين إقليميتين، إيران وروسيا، ومن جزء من شعبه لأسباب معلومة، فلا وجه للقياس بين الحالتين. ثم إن موقف العرب من التدخل في العراق كان في الغالب الرفض والشجب والتنديد، ولو حصل تدخّل في سورية للقي الموقف نفسه.
مرة أخـــرى، العرب لا يعرفون هل ينبغي للغرب أن يتدخل أم لا، وإذا تدخل، كمـــا هو الشأن في العراق وليبيا، حمّلوه مـــآل الأوضاع، وإذا لم يتدخّل حمّلوه أيضاً مآل الأوضاع، كما هو الشأن في سورية. إنه في الحالين إسقاط على الآخرين لنتائج المواقف المترددة والمتناقضة.
العرب يشتكون من الكيل بالمكيالين، ولا يدركون أنّ مواقفهم المضطربة والمتهرّبة من المسؤولية أفضل تجسيد لهذه السياسة.
لماذا الإصرار على ربط الإرهاب بالمسلمين؟ لأن أكثر من 95 في المئة من العمليات الإرهابية التي حصلت في العشرين سنة الأخيرة، ارتكبها مسلمون بدوافع ترتبط في أذهانهم بتبريرات دينية. هل الأمر صدفة أم أن ثمة ثقافة دينية تسند الإرهاب مثلما تسنده حاضنة اجتماعية وسياسية؟ المشكلة طبعاً ليس في الإسلام كدين، لكن في هذه الثقافة التي التصقت به والتي تباع مصادرها في المكتبات وتنتشر انتشار النار في الهشيم على صفحات التواصل الاجتماعي وفي الإنترنت، وتتبناها أحزاب سياسية معترف بها في بعض البلدان. ومن سكت عن مقدمات الإرهاب فقد تواطأ مع نتائجه، ولا ينفعه بعد ذلك التظاهر بالإدانة وإعلان البراءة.
لكن، دعنا من هذا كله ولنتساءل عن الأهم: من هم أكبر ضحايا الإرهاب؟ والجواب واضح: إنهم العرب والمسلمون، لذلك لا أفهم كيف يكون هؤلاء الأكثر تردّداً في محاربته والأكثر لجاجة وعناداً في تبريره. أليس الأولى بنا أن نحزن على الأبرياء في أي مكان من العالم، ونكون أوّل من يعارض أن تغتصب الحياة من دون ذنب؟
عنـدما يضرب الإرهاب أميركا أو فرنسا أو ألمانيا، وهي بلدان قوية، فذلك يعني أنه سيكون أقدر على ضرب مدن العرب والمسلمين. وحدهم البلهاء لا يفهمون الرابط، وعدد البلهاء عندنا كبير. |