الأثنين ١٤ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: تشرين الثاني ٢٨, ٢٠١٥
المصدر: ملحق النهار الثقافي
معضلة التراث والمعاصرة في الفكر العربيّ الراهن - طارق زيادة
لا تزال إشكالية التراث والمعاصرة تخضّ الفكر العربيّ الراهن، وتلقي بثقلِها على الأوضاع العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعرب جميعاً، إذ نراها ثاويةً عند كل منعطف من منعطفات حياتنا، تؤرق علينا وجودنا وتحيله إلى معضلة مأسوية، وتعطّل نهضتنا، وتفسح المجال للوقوع في نكسةٍ إثر نكسة، ونكبةٍ تلو نَكبة، من دون أن نستطيع الخروج من المستنقع الذي نقبع فيه إلى آفاق المساهمة في الحضارة الإنسانية، محاولين تقليد التراث طوراً، وتقليد الغربنة طوراً آخر، من دون أن نبتدع طريقنا الخاص للولوج إلى المعاصرة على ضوء من معطيات واقعنا.

أولاً: تقليد التراث
الواقع أنه إذا حلَّلْنا مفهوم التراث عند عرب "النهضة" نجد أنه ينطوي على معنيَين متداخلَين: الأول معنى "الأصل" القائم بذاته كقيمة موضوعية والموجود هناك في التاريخ (في الماضي) موصولاً بالحاضر ومتداخلاً فيه، والذي تنبغي "العودة" إليه والأخذ منه والاستناد إليه في نقد الحاضر والانطلاق إلى المستقبل. الثاني معنى الهوية الثقافية الذاتية للأمة العربية المعرَّضة للانمحاء، التي تجد في التراث "أوالية" دفاع ذاتي ضد التحديات الخارجية. هكذا يضحى التراث في آن واحد "قيمة موضوعية" موجودة بذاتها يُستنَد إليها للانطلاق نحو المستقبل، كما استندت النهضة الأوروبية إلى الفكر اليوناني – الروماني، و"قيمة ذاتية" من أجل إثبات الذات العربية الراهنة وتأكيد وجودها. مشيرين إلى أن الأمم الأوروبية إبّان نهضتها كانت قد تخطّت مرحلة الخطر الخارجي بانكفاء هجمات شعوب الشمال وانكفاء هجمات العثمانيين، أي لم تكن معرَّضة للغزو الخارجي كما هي حال الأمّة العربية اليوم.

هنا تبرز الإشكالية الأولى في مفهوم التراث، إشكالية التماهي بين الموضوعي والذاتي والالتباس والاختلاط بينهما، فيصبح التراث بالنسبة إلى الشخصية القومية ليس موضوعاً قائماً بذاته في الإمكان تحليله وتشريحه وتفكيكه ونقده، بل جزء من الذات العربية المعرَّضة للهجمات والواجب الدفاع عنها، وهكذا يتملّكنا التراث بدل أن نمتلكه.

وإذا كان التراث، هو حضور الأصل، الأب (السلف) في الابن (الحاضر، الخلف)، أدركنا الإشكالية الثانية التي أشار إليها الدكتور محمد عابد الجابري الناجمة عن تكرار التراث بأدواته المنهجية والمعرفية، وأدركنا غياب القطيعة المعرفيّة مع التراث في الفكر العربي السلفي والأصولي، هذا التكرار الذي يجعل النقل أساس العقل، والعقل محدود ومربوط كما في "عقل الناقة أي ربطها" ويجعل القياس على الأصل الأداة المنهجيّة الوحيدة، ويحصل قياس "الحاضر على الماضي" و"الغائب على الشاهد" فيسقط الفكر في "التقليد" ويضحى تكراراً وإعادة للتراث في حاضر جامد هو نسخة باهتة عن الماضي المنقضي، بدل أن يسِمَ الفكر بطابع النظرة الكلية والشمولية المبدعة الخلاّقة التي تعالج واقعاً حيّاً وتضع الحلول لقضاياه ومشكلاته وتتصدى بالنقد للتراث ذاته، مجريةً قطيعة معرفية معه على ما قاله المفكر المصريّ الدكتور حسن حنفي.

تترتّب على ذلك إشكالية ثالثة ناجمة عن غياب الحسّ التاريخيّ. فالنظر السلفيّ والأصوليّ يفكّر في قضايا الحاضر كأنها واقعة خارج التاريخ، فهو فكر غير تاريخي يهمل المعطيات الواقعية الراهنة جميعاً ويحاول أن يعيد تجربة الماضي، الذي يعتبره كاملاً، لتطبيقها على الحاضر المختلف بكل أبعاده، فتأتي حلوله غير واقعية كأنها من عالم آخر، متجاهلاً أن ما عبّر عنه السلف باسم "أسباب النزول" لهو في الحقيقة أسبقية الواقع على الفكر، كما أن ما عبّر عنه القدماء باسم "الناسخ والمنسوخ" دليل على أنّ الفكر يتحدَّد طبقاً لقدرات الواقع وبناءً على متطلّباته. كما أنَّ هذا النظر السلفي انتقائي، فحين يذهب الخليفة عمر بن الخطاب إلى حدّ وقف العمل بنصوص قرآنية واضحة (حدّ السرقة) وإلى مخالفة سُنَّة نبويَّة ثابتة (توزيع قسم من الغنائم لتأليف القلوب) مجتهداً لمواجهة تحديات عملية وفكرية جديدة، فهذا دليل عبقريَّته في فهم روح الإسلام وجوهره. أمّا عندما تتصدّى المعتزلة لإعمال العقل في مواجهة تحديات فكرية وعملية جديدة، فإن ذلك يشكل انحرافا وتشويها وفقاً لهذا النظر الانتقائي.

إنَّ هذا النظر يكرر الاختيارات النمطية القديمة من دون البحث في كيفية نشوئها والأغراض التي خدمتها، كأن التراث جسم ميت وجثة هامدة بلا واقع وتاريخ أو حياة أو عصر معين، ولا يهتم هذا النظر لتغيُّر الظروف القديمة وقيام ظروف جديدة تتطلب إعمال العقل للوصول إلى اختيارات بديلة، بل إنه يشوّه الأنماط القديمة ذاتها مما يسيء إليها أيضاً.

إنَّ هذا النظر هو رهين عقيدته الايديولوجية التقليدية يريد إعادة تجربة الماضي من دون تفاعل مع الواقع الحيّ، إلا أنّه يرضى من اتباعه استهلاك منجزات الحضارة الغربية المعاصرة رغم وقوعهم في ازدواجيَّةٍ انفصاميّة تجعلهم مجبَرين على تبرير ما يقومون به من أعمال مغايرة لأسس عقيدية يتظاهرون بالتمسك بها، وتجعل تفكيرهم غير متماسك. لا يمكن مثل من يعاني هذه الازدواجية الانفصامية، أن يكون عنصراً فعّالاً في أي نهضة حقة، إذ لا يمكن الفصل بين منجزات حضارة ومنهج تفكيرها إلا لمن يريد أن يعيش على هامش تلك الحضارة غير مشاركٍ فيها ولا مُبدِع ولا مُنتِج ولا ناقد لها نقداً صحيحاً وعميقاً وإنما مجرَّد مستهلك، وهذا هو مضمون الإشكالية الرابعة.

ثانياً: تقليد المعاصرة
إذا كان السلفي مسكوناً بالتراث، فإن العربي "المتعصرن" مسكون بالحاضر، منبتّ الجذور عن تراثه كأنه فاقد الذاكرة، إلا أنَّ هذا لا يمنع أنَّه تقليديّ، سلفيّ، من نوع آخر، يكمن مثاله السلفي في النموذج النهضوي الغربي فهو "متغرّب"، ويمكن هنا مقاربة اصطلاحَي الاغتراب، بمعنى الاستلاب والتغريب ومقاربة كلمتي "متغرّب" و"مستلب".

يظن "المتعصرن" أنَّ النزوع الحضاريّ الغربيّ في أن يكون مركزياً وعاماً وشاملاً للعالم يبيح له أن يتماهى مع هذه الحضارة العالمية ولو أنه يعيش على هامشها، يستفيد من منجزاتها من دون أن تكون له فيها مساهمة تأخذ خصوصيته في الاعتبار. فهو كالسلفيّ مقلّد وتقليديّ ومستهلك. هذا هو مضمون الإشكالية في أن العربيَّ "المتعصرن" يهمل ذاتيته (خصوصيته) لصالح المركزية الحضارية الغربية العامة (الموضوعية)، ظناً منه أن مجرد وجوده في هذا العصر يتيح له أن ينتمي إلى هذه الحضارة المعاصرة، متناسيا أنها وليدة معطيات تاريخية اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ودينية معينة، مجرّباً إدخال واقعه الخاص في القالب المرجعي الجاهز من دون اعتبار لخصوصية هذا الواقع، متخذاً المعاصرة كأيديولوجيا (مفهوم التقدم)، فتأتي النسخة باهتة يابسة لانقطاع نسغ الحياة فيها.

ندلِّل على هذه الإشكالية بنماذج متعددة:
أ- نموذج المفكرين العرب الذين تابعوا المستشرقين في النظر العصري للتراث العربي الإسلامي، فأتى نظرهم تابعاً مقلّداً، على صعيد الرؤية والمنهج، إذ الاستشراق ينظر إلى الذات من الخارج. وقد صاحبت الظاهرة الاستشراقية الظاهرة الاستعمارية في مرحلة أولى وكانت وليدة المركزية الأوروبية التي تجعل من التاريخ الحضاري الأوروبي "التاريخ العام" للفكر الانساني "الموحّد المستمر" وتعتبره "المرجع" وما عداه هامشياً، ذاهبة إلى حد اعتبار "العقل السامي" عقلاً غير قابل للتفلسف.

بدل أن ينظر الباحث العربي هذا إلى تراثه من الداخل، تابع المستشرق ذا النهج التاريخي، فكانت الفلسفة العربية امتداداً "منحرفاً" أو "مشوهاً" للفلسفة اليونانية لأنه لم يأخذ في الاعتبار الوظيفة الفكرية التي لعبتها الفلسفة العربية الإسلامية في البناء الحضاري من حيث أنها كانت ضرورة ماسّة للتوفيق بين العقل والنقل والوحي والفلسفة في مرحلة تاريخية معيَّنة لها ظروفها ومعطياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

هناك بحّاثة عرب تابعوا المنهج الفيلولوجي للمستشرق الذي كان يلتمس فيه أصول الأفكار في المجال الأوروبي "الآري" ذي الجذور اليونانية والرومانية والمسيحية القروسطية الغربية، بدل أن يتلمسوا هذه الأصول في المجال العربي الإسلامي بعقل ناقد فاحص.

حتّى أصحاب النظر الذاتي الفردي من المستشرقين الذين تعاطفوا مع بعض الشخصيات الفكرية العربية الإسلامية من مثل تعاطف ماسينيون مع تجربة الحَلّاج وتعاطف كوربان مع تجربة السهروردِيّ. فإنَّهم كانوا مرتبطين بمنهجهم الفكري الغربي حتى كادوا أن يردّوا روحانية هذه الشخصيات العربية الإسلامية إلى أصول يهودية ومسيحية وفارسية وهندية، وأخيراً – وهذا بيت القصيد – إلى أصول يونانية، كأنهم يغفلون إعطاء وحدة الحضارة الإنسانية مقامها السامي، هذه الوحدة التي ساهم بها العرب بقسطٍ كبير.

ب- نموذج عصري آخر هو نموذج المفكرين العرب الذين يبحثون في "سرّ" التقدم الغربي فيجدون مرجعيَّتهم السلفية طوراً في "الديموقراطية" وطوراً في "القومية والوطنية" وطوراً في "التصنيع" وطوراً في "التعليم"، فيقدّمون النماذج الجاهزة من دساتير وقوانين وأنظمة وتجارب (الوحدة الإيطاليّة، الوحدة الألمانيّة)، يرون فيها السبيل إلى الخروج من التخلف إلى التقدم بحرق المراحل، كأن النموذج الغربي قد وجد هو الآخر دفعة واحدة ولم يكن وليد سيرورة تاريخية طويلة، على ما لاحظ الدكتور جورج طرابيشي، وكأنّ في الإمكان زرعه من دون أدنى اعتبار لقابليَّة التربة العربيّة لذلك الاستزراع. هذا النموذج يعطي الفكر بحدّ ذاته قدرة تغيير الظروف الاجتماعية معلّقاً أهمية بالغة على الفرد المبدع كعضو في نخبة لتغيير المجتمع.

ج– نموذج عصري آخر، مقلّد وتَقليدي، يفصّل الواقع التاريخي على القوالب النظرية هو نموذج الفكر اليساري العربي (القومي والأممي)، وهو لا يتبع المنهج الديالكتيكي كـ"منهج للتطبيق"، بل كـ"منهج مطبق"، فتنتهي القراءة اليسارية العربية للتراث إلى "سلفية ماركسية" تكرر الموضوعات المركسية العامة بديلاً من الدراسة التاريخية العيانية.

إنّ هذه النظرة إلى التراث تجعل من تاريخ الفلسفة العربية حاضرها الفلسفي الراهن، مصطنعةً تاريخاً للفلسفة متلائماً مع المقتضيات الايديولوجية الراهنة، محاولة أن تكشف في خطاب الأقدمين عن خطابها هي، فتؤدلج التراث وتسيّسه بدلاً من أن تعقِلَه كما يوضح الدكتور علي حرب، فإذا استعصى التراث على "المنهج المطبق" واستغلق، كانت العلّة فيه وليست في المنهج.

ثالثاً: الفكر العقلاني النقدي طريقنا الخاص الى المعاصرة
يقيناً أننا لسنا في حاجة لنؤكد ثراء التراث العربي الإسلامي، ولا غنى الحضارة الغربية المعاصرة، ويقيناً أنَّ الإشكالية التي نعانيها ليست فيهما بحد ذاتهما، وإنَّما الإشكاليَّة في الفكر العربي الراهن الذي تبيّن لنا أنه سلفي تقليدي ومقلّد، تالياً غير مبدع ولا منتج، ويتكوّن هذا التقليد من شقَّين أحدهما "نكوصي" يقف عند التراث، وثانيهما "إبدالي" يتشبَّه بالغير.

السؤال الذي يُطرَح بداهةً: كيف السبيل إلى الخروج مما نحن فيه والولوج إلى مكانة فكرية ثقافية وحضارية للعرب في العالم المعاصر؟

ليس من وظيفة هذا المقال الوجيز أن يجيب عن السؤال المهم الذي طرحه "النهضويّون" العرب على أنفسهم: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ إذ الجواب أبعد من حدود الإشكالية التي حاولنا معالجتها، وإن كنّا لا نودّ الوقوف عندها من دون محاولة تقديم تصوُّر مختصر لحلِّها.

نسارع إلى القول بأنّ الفكر هو نتاج عملية جدليَّة بين العقل والواقع. وأنّ الواقع متّصل بالتراث وجزء من العصر، وبدون الوقوع في دعوة انتقائية أو توفيقية تلفيقية مصطنعة بين التراث والمعاصرة، لن نستطيع الكشف عن الحقيقة، كما دلَّت التجربة، إلا بأن يكون الفكر العربي عقلانياً نقدياً يعيد النظر في المعطيات فيقف من نفسه موقفاً فاحصاً، وإلا وقع في "الصحوة الكاذبة" أو "الوعي الخاطئ" أي لا يقوم بأيّة عودة نقديّة على ذاته، ولن يكون ذلك إلا بتحديث هذا الفكر وتجديد أدواته وصولاً إلى تشييد ثقافة عربية أصيلة ومعاصرة في آن واحد تقوم على البحث في التراث كموضوع مفصول عن الذات، قابلة نصوصه للتفكيك في ضوء تحليل عقلانيّ تاريخيّ لماضي العرب وحاضرهم ومستقبلهم المتوقَّع، يُعنى بربط هذه النصوص بسياقها التاريخي الزمني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، تالياً بيان الوظيفة الايديولوجية التي لعبتها هذه النصوص على اعتبار أنَّ التراث نتاج للظروف الاجتماعية في عصره وهذا كله يدخل في سياق ما يُسمّى بالقطيعة المعرفيَّة مع التراث، تمهيداً لأن يكتشف هذا الفكر مرتكزات عقلية له (حتى في التراث) ينطلق منها للتأثير والتأثر (التفاعل) بالواقع (المجتمع، الطبيعة) بعد تحليله، إذ الواقع العربي كما هو لم يخضع للتحليل الضروري، وصولاً لتغييره في عملية جدليَّة يغتني فيها الفكر بقدر غنى الواقع، ويتحوّل الواقع من الوهن الراهن إلى التراصّ المرتجى.

* نائب رئيس المجلس الدستوري اللبناني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة