الأربعاء ١٦ - ٧ - ٢٠٢٥
 
التاريخ: تموز ٢٤, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
نظريّة فلسفيّة لأسلمة الحداثة! - السيد يسين
تحدثنا في مقالنا الماضي «الإسلام السياسي والبحث عن الحداثة الضائعة» (10 تموز/ يوليو الماضي)، عن ثلاث مراحل أساسية حاول فيها أنصار الإسلام السياسي بمختلف توجهاته اتخاذ مواقف محددة في مجال رفض فكر الآخر وإثبات صحة فكرهم الإسلامي.

وتمثل رفض فكر الآخر في الرفض الإسلامي للحداثة الغربية بكل أنماطها وفي مختلف تجلياتها. أما محاولة إثبات فكر الذات فتمثلت في صياغة هوية إسلامية متخيلة تقوم على أسس عدة أهمها «الشورى» من الناحية السياسية، و «أسلمة المعرفة» من الناحية المعرفية، وتأسيس «بنوك إسلامية غير ربوية» من الناحية الاقتصادية، وأخيرا «مراقبة السلوك الاجتماعي للمواطنين» تطبيقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولسنا في مجال التقييم النقدي التفصيلي لنجاح أو فشل أسس الهوية الإسلامية المتخيلة. ويكفي بإيجاز شديد أن نقول إن حركات الإسلام السياسي، خضوعاً لمتطلبات توازن القوى في المجتمعات العربية والإسلامية، تخلّت عن ضرورة تطبيق نظام الشورى وقبلت بآليات الديموقراطية التي كانت تعتبرها «بدعة» غربية، وقبلت دخول معترك الانتخابات البرلمانية بل إنها، في تجربة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، أسست حزباً سياسياً هو حزب «الحرية والعدالة» الذي رشح الدكتور محمد مرسي ليكون رئيساً لمصر، والذي نجح فعلاً في الانتخابات الرئاسية وإن كان بفارق ضئيل أمام منافسه الفريق أحمد شفيق.

أما الأساس الثاني للهوية الإسلامية المتخيلة وهو «أسلمة المعرفة الغربية»، فقد فشل هذا المشروع فشلاً ذريعاً باعتراف دعاته، لأنه قام في الواقع على أساس بالغ الضعف والتهافت من زاوية فلسفة العلم.

ولو نظرنا إلى الأساس الثالث وهو «تأسيس اقتصاد إسلامي مناقض للاقتصاد الرأسمالي»، فقد نجح بالفعل في اجتذاب أموال الألوف من المسلمين البسطاء الذين دفعتهم الحماسة لهويتهم الإسلامية في مجال الحرص على عدم ممارسة الربا، إلى إيداع أموالهم في البنوك الإسلامية التي خدعتهم واستثمرت أموالهم بالشراكة مع البنوك الرأسمالية الربوية!

ويبقى الأساس الرابع من الهوية الإسلامية المتخيلة وهو تبني «ذهنية التحريم» ورقابة السلوك الاجتماعي للناس من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد سقطت في التطبيق بعد أن استنكرت جموع الشعب المصري المحاولات الفاشلة لجماعات سلفية متطرفة تكوين جماعات لمراقبة الناس في المجال العام وردعهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويمكن القول إن إسقاط الشعب المصري حكم جماعة «الإخوان» الديكتاتوري في 30 حزيران (يونيو) 2013 في مصر، بدعم جسور من القوات المسلّحة المصرية، كان إعلاناً في الواقع عن سقوط مشروع الهوية الإسلامية المتخيلة. وأبرز عناصره تأسيس دولة دينية واسترجاع نظام الخلافة مجدداً. بعبارة أخرى، كانت وقائع 30 حزيران إعلاناً واضحاً عن الفشل السياسي لجماعة «الإخوان المسلمين» بحكم عجز قادتها عن حكم البلاد، وعلامة فارقة للسقوط التاريخي للإسلام السياسي، والذي ثبت أنه مشروع مفارق لروح العصر ولا يعبّر عن طموحات الجماهير العريضة التي تسعى، بعد ثورة يناير، إلى تأسيس حكم ديموقراطي حقيقي ليس فيه مكان لديكتاتورية باسم الدين، وإنشاء فضاء اجتماعي مفتوح يمارس فيه الناس حرياتهم في التفكير والتعبير والدفاع السلمي عن حقوقهم الأساسية في تنمية عادلة ليس فيها مجال للاستغلال.

وهكذا أصبحنا اليوم، بعد الفشل السياسي والسقوط التاريخي للإسلام السياسي، أمام محاولة أخيرة لإنقاذ هذا التيار من وجهة النظر الفلسفية، وذلك بصياغة نظرية إسلامية عن الحداثة تقف في الساحة الفلسفية نقيضاً للحداثة الغربية. وهي المحاولة التي ندب نفسه لتحقيقها أستاذ الفلسفة في الجامعات المغربية الدكتور طه عبدالرحمن في كتابه المهم الذي أشرنا إليه في مقالنا الماضي وهو «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية».

وقد وعدنا القراء في المقال الماضي أننا سنشرع في قراءة نقدية لهذا الكتاب الذي سبق لمؤلفه أن أصدر مجموعة من الكتب الفلسفية الرصينة.

لكن حين شرعت في القراءة النقدية للكتاب، أدركت بسرعة أنني أمام مشكلة فكرية عريضة تتمثل أساساً في التعريف الدقيق للمكونات الأساسية للحداثة الغربية. ليس ذلك فقط، لكن في تتبع النقد العنيف الذي وجه إليها داخل الدوائر الفلسفية والفكرية الغربية ذاتها، والذي وصل إلى ذراه بصعود تيار فلسفي جديد يطلق عليه «ما بعد الحداثة». وهذا التيار وجّه سهام نقده الى الحداثة الغربية التقليدية، وأهم من ذلك أنه ابتدع مقولات فلسفية جديدة تحاول التعامل مع مشكلات عصرنا الراهن الذي يختلف جوهرياً عن العصر الذي بزغت فيه أفكار الحداثة الأولى.

ومن المهم هنا، أن نلاحظ أن تيار ما بعد الحداثة دخل في صراع فكري عنيف مع أنصار الحداثة التقليدية. وربما كانت المعركة الأشهر هي التي قادها الفيلسوف الألماني الشهير هابرماس، والذي نشر اعتراضاته في مقالة أصبحت كلاسيكية عنوانها «الحداثة مشروع لم يكتمل بعد».

ومعنى ذلك أننا نحتاج في الواقع، إذا أردنا أن نقرأ المشروع الفلسفي لطه عبدالرحمن عن الحداثة الإسلامية، الى أن نلمّ أولاً ولو بإيجاز شديد بالمقولات الأساسية للحداثة الغربية من ناحية، وأن نعرض باختصار لمبادئ ما بعد الحداثة حتى يكون نقدنا لمشروع تأسيس الحداثة الإسلامية المقترحة مبنياً على معرفة دقيقة بالبنية الفكرية للحداثة وما بعدها.

وجدير بالذكر أن هناك مفكرين عرباً كتبوا كتابات متعمقة عن أسس الحداثة الغربية، قد يكون في مقدمهم أستاذ الفلسفة المغربي محمد سبيلا في كتابه المهم «مخاضات الحداثة» (2007)، ومعنى ذلك أن لنا جولات تمهيدية قبل الدخول في صميم الموضوع.

والجولة التمهيدية الأولى تتمثل في إبراز السمات الفلسفية الأساسية للحداثة. وأنا أعرف سلفاً، أن هذا موضوع متخصص قد لا يصلح لمعالجته مقال في صحيفة، لكني سأعتمد أساساً في بيان هذه السمات على مقتطفات أساسية من كتاب محمد سبيلا الذي أشرت إليه، والذي هو في الواقع أشبه ما يكون بموسوعة فلسفية متكاملة في الموضوع لأنه جمع فيه شتات دراساته التي نشرها عبر سنوات طويلة. ويكفي أن نشير إلى أن عدد صفحاته تعدى الثمانمئة صفحة.

ويبرز محمد سبيلا سمات الحداثة في أربعة موضوعات رئيسية هي: المعرفة والطبيعة والزمن والتاريخ والإنسان.

وهو يقرر في حديثه عن المعرفة وأنا أقتبس «تتميز الحداثة بتطوير طرائق وأساليب جديدة في المعرفة قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية».

وبعدما يميز سبيلا بين المعرفة التقليدية والمعرفة التقنية، يعرفها باعتبارها «نمطاً من المعرفة قائماً على إعمال العقل بمعناه الحسابي، أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية والتكميم. النموذج الأمثل لهذه المعرفة هو العلم أو المعرفة العلمية التي أصبحت نموذج كل معرفة».

وهو يصف عقل الحداثة بأنه عقل «أداتي» والمعرفة الحداثية باعتبارها معرفة تقنية، بمعنى أنها إضفاء الطابع التقني على العلم بما في ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية.

وينتقل سبيلا إلى الحدث الفكري الأساسي في تاريخ الفكر الغربي الحديث، وهو نشوء ما اصطلح على تسميته «العصر العلمي – التقني» ابتداء من القرن السابع عشر. وقد شكل منشأ هذا العصر الجديد تحولاً أساسياً في النظر إلى الطبيعة.

ويكفي في هذا الصدد أن نشير مجرد إشارة إلى الاكتشافات العلمية الكبرى التي أنجزتها مجموعة واسعة من العلماء الذين ينتمون إلى بلاد شتى تعبر عن ثقافات متعددة. وهذه الاكتشافات غيرت في الواقع الوجود الإنساني وجعلته أكثر فاعلية وقدرة على مواجهة التحديات العالمية.

وقد التفت سبيلا إلى أهمية موضوع الزمن باعتبار أن زمن الحداثة يتميز بأنه زمن كثيف ضاغط ومتسارع الأحداث.

ويكفي في هذا المجال أن نشير إلى أن «الثورة المعلوماتية» غيرت إلى الأبد مفهوم الزمن التقليدي. ذلك أن عصر العولمة، الذي يعبر في الواقع عن حداثة جديدة يتّسم بالتسارع، وأعني تسارع الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية، وبتدفق المعلومات بحكم اختراع شبكة الإنترنت وغيرها من أدوات الاتصال الاجتماعي، ومعنى ذلك أننا نعيش، كما عبّر مرة فيلسوف العلاقات الدولية الفرنسي المغربي زكي العيدي، في الزمن العالمي. وهو زمن يختلف كلية عن الزمن في الأجيال الماضية. إذا كانت هذه هي السمات الرئيسية للحداثة، فما هي المقولات الرئيسية لما بعد الحداثة؟.

* كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٥ . جميع الحقوق محفوظة