شاب ألماني قتل تسعة قبل أن ينتحر. انفجار في القامشلي يذهب ضحيته عشرات. شاب فرنسي من أصل تونسي دهس أكثر من ثمانين شخصاً قبل أن تقتله الشرطة الفرنسية. أكثر من 17 مليون بريطاني يقترعون للخروج من الاتحاد الأوروبي. شاب ياباني يقتل 19 بالسكين. يمدّد الرئيس الفرنسي حالة الطوارئ في بلاده. سيارة مفخخة تقتل ستين شخصاً في أفغانستان. عشرون ألف موظف حكومي يفصلون من عملهم أو يعتقلون إبّان محاولة الانقلاب التركية. شاب أميركي مسلم قتل خمسين في ملهى ليلي قبل قتله. ترامب يفوز بترشيح الحزب الجمهوري. مهاجر أفغاني هاجم ركاب قطار بفأس وجرح خمسة منهم. راهب يُذبَح في فرنسا. سيارة مفخخة تقتل مئتي شخص في بغداد. إشاعة أن ويكيليكس تتجند لمحاربة كلينتون لمصلحة ترامب. قصف للتحالف الدولي يقضي على خمسين شخصاً في سورية. «داعش» يعلن مسؤوليته بالجملة عن كل ما يجرى وبشار يبرّئ نفسه بالمفرق من مسؤولية أفعاله.
أحداث تتعاقب وليس بالضرورة من رابط يجمعها، أو على الأقلّ ليس من رابط واضح. لكن الأحداث لا تستطيع الاستمرار بلا رواية تجمعها وتضبطها وتنظمها، حتى إذا أدركنا تماماً أن الروايات مجرّد حكايات نرويها للهروب من البديل، فتبدو عنفاً عبثياً وبعثرة أحداث وانتصاراً لغرائز بلا ضابط.
وفي الفجوة التي تفصل بين فائض الأحداث واستحالة ضبطها، قد تكمن أزمة المرحلة الحالية. فالروايات المطروحة لم تعد تقنع حتى أصحابها وبات تردادها ناتجاً من عادة أو غريزة خطابية أكثر مما عن واقع يشكّل ملعبها. فالروايات التي تتصارع على تفسير الواقع باتت أشبه بـ «الأمثلة الشعبية»، فيها بذرة حقيقة لا تفسرّ شيئاً: المطلوب إصلاح مفاهيم الإسلام والتصالح مع الحداثة، يجب محاربة الفقر والحرمان، الأفضل حل النزاعات سلمياً، على الغرب الاعتراف بأزمة الأقليّات...
هناك روايتان احتكرتا الحقل السياسي ولم يعد ممكناً اختزالهما بثنائية اليمين واليسار، تعيشان اليوم أيامهما الأخيرة. في وجه الأحداث المتراكمة، تركّز الأولى على هوية الفاعل لتبحث عن تناسقها وإيقاعها في أفعاله اللاعقلانية. فهناك مجموعة بشر قرّرت الخروج عن الإجماع الإنساني وباتت مسؤولة عن كل آفات العصر: من متعصبي أميركا الذين انتخبوا ترامب، إلى انعزاليي بريطانيا الذين رفضوا نعمة الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى مسلمين، أصحاب عمليات العنف. باتت مجموعة «الخارجين عن الإنسانية» تشكّل الأكثرية، وترفض الإذعان لأوامر شرطة الأمر الواقع. من كان مفروضاً أن يقضي عليه التاريخ، لم يصمد فحسب، بل عاد وانتقم منه. في وجه هذه الثورة، لا يبقى إلا الدفاع عن الأمر الواقع، مهما كان، في وجه هجوم البرابرة.
الرواية الثانية، هي التوأم التبريري للأولى الاتهامية، وتركز على أسباب خروج هذه الأكثرية من جنة الإجماع المحصورة بنخب العالم. فمشجعو اليمين المتطرف ليسوا مجرّد عنصريين وانعزاليين، بل ضحايا سياسات اقتصادية وخطابات ثقافية، فرضت عليهم هذا الخيار. والعنف «الإرهابي»، مهما كان مداناً، ليس نتيجة عقل مريض بل نتيجة بنية عالمية مريضة، تنتج العنف والعنف المضاد، ليس من خارج نظام الأمر الواقع، بل نظام ينتج بؤساً وبائسين. في وجه هذا النظام وجنونه، لا يبقى إلا الدفاع عن بديل، مهما كان.
الروايتان نظمتا لعبة توزيع اللوم واللوم المضاد، مدعومتين بترسانتيهما تاريخياً وسوسيولوجياً وسياسياً، وقدمتـــا خريطة طريق للأحداث: ففي وجه الداخل الخارج، وفي وجــه التنوير الاستعمار، وفي وجه الاندماج العنصرية، وفي وجـــه النمو عدم المساواة، وفي وجه الإرهاب حرب العراق، وفي وجـــه الثقافة الاقتصاد. بيد أنّ تطورات السنوات الأخيرة، وبينها الثورة السورية، وصعود يمين مناهض للنظام، لم تعد تنتظم ضمن هذا الاصطفاف، لتبدأ عملية الهجرة والاقتباس والانتقال بين ضفتيه. فتذكر مُفكِّك التنوير حسنات العلمنة، وانسحب مُفسِّر الإرهاب أمام «داعش»، وتبنى اليميني نقد النخب وطالب بانسحاب بلاده من العالم العربي.
حدة الخلاف لم تختفِ في الظاهر، لكن صلابتها باتت تلين. بدأت تظهر نظرات تفاهم على الوجوه التي كانت عابسة سابقاً وتحوّلت صيحات البارحة إلى صمت استحسان. فرض الواقع نقاط التقاء تُوحِّد أعداء البارحة، وتعلّق الخلاف ريثما تعود الأمور إلى وضوحها السابق.
بيد أنّ تقارب وجهات النظر، كتباينها، لم يطوّع الأحداث في رواية واحدة. فانسحب الطرفان اللذان باتا طرفاً، وتركا الواقع يلهو كما يشاء. لم يعد هناك تسييس ممكن. ما زال الخلاف قائماً حول حدث أو آخر، ولكنْ لم تعد هناك رواية موحّدة. فلم يكن أحد يتخيل أن هذا الجنون قد يحصل. لم يتخيّل نقاد النخب أن يختار الناس من اختاروهم. ولم يتخيّل مبرر «المقاومة العراقية» أن تكون إحدى نتائجها «داعش». ولم يصمد مفسر الإرهاب أمام كمّ العنف، ولم يتحمل المدافع عن الاندماج الخلاصة الهوياتية لكلامه. بات الجميع يواجه شياطين مواقفه السابقة ويبحث عند الخصم عن نوع من الغفران.
وربّما عاد هذا إلى عدم اهتمام الطرفين بالحدث أصلاً، الذي لم يكن إلا محطة إضافية في رواية مكتوبة سلفاً. قد يكون هذا طبيعياً في لحظات «السياسة العادية»، في استعارة لعبارة توماس كوهن عن «العلم العادي»، لكنّه لم يعد يصلح لحظة «الثورات السياسية»، حيث الحدث يقطع فرضية الاستمرارية والتراكم. قد يكون «الحدث السوري» الحدث الأبرز في مرحلة الثورات هذه، بقدرته على كسر حلقات التراكم الخطابية وإظهارها على «عاديتها»، أي قوالب خطابية قائمة بذاتها ومحصنة للمفاجآت. لكنّ تكاثر الأحداث بات ينبئ بأزمة، وعمليات الهجرة والاقتباس المتبادلة ليست إلا محاولات لإنقاذ ما يمكن من «السياسة العادية» التي تربى عليها بعضهم.
السياسة ليست علماً، لكن الأزمات تتشابه بأشكالها. قد لا يكون هدف السياسة تفسير الواقع كما العلم يُفسّر دوره، لكن عليها تقديم روايات تنظم الأحداث، وتربط بين الرواية والفعل، وتقدّم تفسيراً لما نحن عليه في هذا المكان والزمان وليس في غيرهما. وفي لحظة «الثورات السياسية»، أي نهاية التراكم والاستمرارية في الخطاب، قد لا يكون هناك طريق غير الغوص في الحدث وكثافته، ومحاولة مقاومة من يريد العودة إلى «السياسة العادية»، وهذا على إيقاع العنف المتزايد. |