الجمعه ٣ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٢٤, ٢٠١٥
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الأزهر ووهن الإسلام المعتدل - أمين الياس
لا أزال أذكر، خلال إقامتي في فرنسا لتحضير أطروحتي في التاريخ المعاصر، دفاع بعض من مثقَّفي فرنسا، ومنهم من هو على علاقة وطيدة بالفضاء العربي، عمّا أسموه بـ"الإسلام المعتدل".
 
كان هؤلاء يصوِّرون أنَّ هناك أوجهاً عديدة للإسلام أبرزها إثنان: الإسلام المتطرِّف المتمثِّل بحركات جهاديَّة كـ "القاعدة" و"طالبان" وغيرها، والإسلام المعتدل المتمثِّل بالأزهر وبالإخوان المسلمين وبدول صديقة للغرب من مثل تركيا ودول ما كان يُسمَّى بـ"الاعتدال العربي".

ومن غريب المصادفة أنْ تزامنت هذه الدعوات المبشِّرة بالإسلام المعتدل والداعية للتعاون معه مع قدوم ما اصطُلح على تسميته عند انطلاقته بـ"الربيع العربي"؛ هذا الربيع الذي سُرعان ما تحوَّل من حركات اعتراضيَّة مبعثَرَة للشباب على حالات الجمود والتخلُّف والظلم والاستبداد إلى "شتاء إسلامي" تقوده أحزاب الإسلام السياسي من إخوان مسلمين في مصر وسوريا واليمن إلى حركة نهضة في تونس. هذا الشتاء التي شكَّل البيئة الأنسب لازدهار حركات الجهاد والتكفير التي باتت ممتدَّة بشكل موصول من باكستان إلى أقصى الشمال الإفريقي ومنطقة الساحل الإفريقي.

طبعًا لن نستعيد تجارب الإخوان في مصر وتونس واليمن وفشلهم الذريع في الحكم وفي بناء تجربة سياسيَّة منفتحة على الحريَّة والحداثة والمستقبل. إذ كان القاسم المشترك لكّل الأشكال الإخوانيَّة دعوات إلى إعادة الخلافة، وأستاذيَّة الإسلام على العالم وربط الدولة بالإسلام وجعل الشريعة المصدر الاوَّل للتشريع ودعوات إلى الفصل بين المسلمين وغيرهم (من مثل عدم جواز معايدة المسلم للمسيحي في أعياد الميلاد والفصح إلخ).

تزامن الأمر مع خسارة تركيا لوهجها كنموذج يصالح بين الإسلام والحريَّة والعلمانيَّة والحداثة. فما كان من حزب الإخوان التركي الحاكم إلَّا أنْ انتهج سياسة داخليَّة قائمة على إزالة آخر مساحات الحريَّة والعلمانيَّة، وخارجيَّة تجاه الفضاء العربي قائمة على دعم أبشع أنواع التطرُّف الديني العنفي والذي يشكِّل "تنظيم داعش" أحد أبرز تجلِّياته.

بهذا، تهاوى الجزء الإخواني من معادلة الإسلام المعتدل التي رسمها هؤلاء المثقَّفون الغربيُّون. المعادلة التي لم يبقَ منها إلَّا الأزهر، تلك المؤسَّسة الألفيَّة التي تُعدُّ الصرح الديني والعلمي الأقدم والأهمّ في الفضاء الإسلامي. لكنَّ الأزهر، ورغم كون شيخه الأكبر أحمد الطيِّب شخصيَّة منفتحة ومتنوِّرة، فشل في مواكبة التطوُّرات بما يمكِّنه من نقل الفكر الإسلامي وخطابه إلى مرحلة جديدة.
كثيرة الشواهد على هذا الأمر. طبعًا لن نذكر الوثائق الخاصَّة بالحريَّة ومستقبل مصر التي صدرت عن الأزهر العام 2012 والتي لم ترقَ إلى مرتبة النقلة الفكريَّة النوعيَّة التي تسمح بتغيير الخطاب الديني في الإسلام وفي مصر. ولن نذكر تشدُّد الأزهر في التعاطي مع الشيعة معتبرة أنَّ هناك تمدُّدًا شيعيًّا يشكِّل خطرًا على مصر وهويَّتها وصولًا حتَّى لمنع الشيعة من إعلاء أذانهم. كما أنَّه ليس من الضرورة التفصيل في نعرات التعنُّت التي أظهرها الازهر في علاقته مع الفاتيكان ومع بعض بطاركة الشرق بحجَّة أنَّ هؤلاء ينتقدون الإسلام، رافضًا محاورتهم والاستماع إلى هواجسهم في علاقتهم مع المسلمين.

آخر الشواهد على تخبُّط الأزهر كان المؤتمر حوال الإرهاب الذي عُقد أوائل شهر كانون الأول 2014، وذلك بعد سنين كثيرة من صمته على العنف الذي كان يُمارس بإسم الإسلام، وغضبه من كلِّ من ينتقد الممارسات التي تقوم بها بعض جماعات الإسلام السياسي. واصفًا ممارسة بعض "الميليشيات الطائفيِّة [الإسلاميِّة]" بـ"الجرائم المتعارضة مع الإسلام الصحيح"، اكتفى الأزهر في بيانه الختامي بإدانة لفظيَّة لهذه الممارسات دون أنْ يعلنَ عن ورشة مُمَنْهَجَة لتصحيح المفاهيم الإسلاميَّة خاصَّة تلك المتعلِّقة بالجهاد والعنف والدولة والخلافة والعلاقة مع الآخر. لم يبشِّرنا الأزهر بورشة إعادة قراءة للتراث الإسلامي الديني على طريقة الإمام محمد عبده والعالم علي عبد الرازق والأديب طه حسين والمفكِّر جمال البنا ولمَ لا للأكاديمي نصر حامد أبو زيد. إذ لا يبدو الأزهر مستعدًّا للذهاب أبعد من الإدانة اللفظيَّة لما يُمارس بإسم الإسلام. فجاء هذا المؤتمر وكأنَّه نوع من رفع العتب لإزاحة المسؤوليَّة عن ظهر الأزهر أكثر مما هو إعادة نبش للتراث الإسلامي وإعادة قراءة للنص القرآني وللأحاديث ولتجديد الفقه بما يتناسب وحاجات مسلمي اليوم للإنخراط في هذا العصر شركاء أساسيِّين في بناء الحضارة الإنسانيَّة وفي الاندماج في المجتمعات التي ينتمون إليها والتي تمتدّ من أندونيسيا إلى القارة الأميركيَّة. كما ترافقت نهاية هذا المؤتمر مع لغط أثاره رفض الأزهر تكفير "تنظيم الدولة الإسلاميَّة" المعروف بـ"داعش"، بحجَّة أنَّه لا يجوز للمسلم تكفير مسلم – وهذا الدعوة لعدم التكفير لا يمكن لنا إلَّا احترامها –. غير أنَّ المفاجأة جاءت منذ أيَّام بتصريح للشيخ الأكبر يستنكر فيها إقدام التنظيم على حرق الطيَّار الأردني معاذ الكساسبة معتبرًا أنَّ هذه الجريمة تستوجب "العقوبة التي أوردها القرآن الكريم لهؤلاء البغاة المفسدين في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله، أنْ يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم [...]".

كثيرون من المراقبين والمعلِّقين اعتبروا أنَّ الأزهر وشيخه الأكبر وقعا في "فخّ" الإشكاليَّة التي رفضا التطرُّق إليها بعمق في المؤتمر المعقود منذ أسابيع، وهي إشكاليَّة العنف الوارد في النصوص الدينيَّة. فكيف بالأزهر، الرافض لتكفير عناصر "داعش" كونهم مؤمنين مسلمين، أنْ يدعو الآن، وبالإستناد إلى النصِّ القرآني، إلى صلبهم وقتلهم وتقطيع أيديهم وأرجلهم. هل يجوز في عصرنا أنْ نتكلَّم لغة كهذه ونطبِّق عقوبات بهذه الحِدَّة وهذا العنف حتَّى ولو كانت هذه الحدود أو العقوبات واردة في النص المقدَّس؟ ثمَّ، أليس الاعتماد على هذا النصّ المقدَّس للدعوة إلى معاقبة الداعشيِّين تأكيدًا على أنَّ هؤلاء ليسوا بخارجين عمّا أسماه الأزهر في بيانه بـ"الإسلام الصحيح"؟ ألم يكن الأجدر بمؤسَّسة الأزهر، وهي السلطة الدينيَّة الشرعيَّة الأهمّ، أنْ تقوم بالتطرُّق المباشر لهذه الآيات وهذه الأحاديث ومعالجتها بما ينقِّي النص المقدَّس من كلِّ استعمال مفترض للعنف وللقتل بإسم الإسلام؟

وكان قد سبق هذه الدعوة تصريح للشيخ الأكبر أيضًا ينتقد فيها الدعوات لتعديل مناهج الأزهر واصفًا الدعاة بـ"فريق من الكارهين الموالين لثقافة الغرب". وقد بدا الشيخ الأكبر في هذا التصريح وكأنَّه يعتبر أنَّ كل دعوة إلى إعادة قراءة التراث الديني الإسلامي وكأنَّها دعوة "خبث وخطر" للتخلِّي عن هذا التراث، ودعوة لإخراج الأزهر من كونه حارسًا للإسلام الوسطي المعتدل. وقد بدا تصريحه هذا وكأنَّه ردّ غير مباشر على دعوة الرئيس السيسي في احتفال عيد المولد النبوي الشريف إلى "الثورة الدينيَّة" وإلى تجديد الخطاب الديني. وقد انتقد العديد من المتابعين والمعلِّقين شيخ الأزهر لتجاهله وجود بعض الكتب التي تُدرَّس في الأزهر والتي تدعو للعنف وللقتل ولكراهية الآخر من مثل كتاب "الإقناع في حلِّ ألفاظ أبي شجاع" للداعية أبي إسحق الحويني والذي يُدرَّس في الصف الثالث الثانوي بالمعاهد الأزهريَّة إذْ يذكر أنَّ "عقوبة كلّ من ترك الصلاة، والمرتدّ، هي القتل دون إذن الحاكم".

وبالرغم من كلِّ ما تقدَّم يبقى الأزهر ضرورة وحاجة لكلِّ محاولة تجديد للخطاب وللفكر الاسلاميين. صحيح أنَّه تواجَدَ الكثير من المفكِّرين المسلمين وغير المسلمين الذين ساهموا عميقًا في تطوير الفكر الإسلامي غير أنَّ مساهمة الأزهريِّين منهم كانت محوريَّة. فمن يمكنه أنْ يتجاهل أعمال الإمام محمد عبده، أو الشيخَيْن علي عبد الرازق ومصطفى عبد الرازق؟ ومن يمكنه أنْ ينسى أنَّ طه حسين بدأ أزهريًّا. لكن يبقى أنَّ لإدارة ولمشيخة الأزهر مسؤوليَّة كبيرة في إطلاق هذه الديناميَّة وفي الخروج من فكرة أنَّ كلَّ إعادة قراءة للتراث هي مسٌّ بالهويَّة الإسلاميَّة وخروج عن صحيح الدين.


 

باحث في التاريخ المعاصر



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة