مع النقاش الذي أطلقه الحراك المدنيّ والشعبي مؤخّراً، وطموحات التغيير التي عبّر عنها، على تفاوتها، غابت واحدة من أهمّ مسائلنا عن التداول والتركيز. ذاك أنّ الرغبة اللبنانيّة المشروعة في التغيير إنّما تزامنت مع انحسار الثورات العربيّة، إمّا بإقامة ديكتاتوريّة عسكريّة في مصر، أو بصعود الحروب الأهليّة – الإقليميّة في سوريا واليمن وليبيا ونجاحها في قضم الثورات. أمّا الثورة التونسيّة التي لا تزال بصعوبة تحاول أن تسلك طريق النجاح، فهي أصلاً ضعيفة التأثير في منطقة المشرق.
ويكاد أن يكون بديهيّاً تشاؤم المتشائمين بآفاق التغيير في بلد صغير كلبنان، بالغ التأثّر بشرطه العربي، لا سيّما منه السوري، حين تسود الثورةُ المضادّة العالمَ العربيَّ، ويتحوّل الطلب على الاستقرار، أيّ استقرار، إلى إرادة شعبيّة عريضة وحاكمة. فهنا، في حالٍ كهذه، يتقدّم الوعي الأمنيّ على الوعي السياسي، مثلما يتقدّم مبدأ الثبات على مبدأ التغيير.
فأن يتوقّع واحدنا صيرورة لبنانيّة تقدّميّة، أو متقدّمة على الأقلّ، وسط انتصار باهر للثورة المضادّة العربيّة، فذلك يشبه الرهان على لوكسمبورغ كقاعدة يُردّ من خلالها على مناخ الثورة المضادّة الذي أعقب هزيمة نابوليون.
وغنيّ عن القول إنّ افتراضاً كهذا ينطوي على نرجسيّة لبنانيّة رفيعة وتعويل (قد يسمّيه البعض انعزاليّاً) على إحداث المعجزات الذاتيّة على رغم ظروف موضوعيّة قاهرة.
بيد أنّ هذه اللوحة السوداء لا تختصر ما قد يمنّ به الوضع العربيّ على لبنان في المرحلة المقبلة. فإذا كان الضغط الذي تمارسه أعمال "داعش" الوحشيّة على الوضع المذكور، وعلى العالم بأسره، يدفع باتّجاه المزيد من تغليب الأمنيّ على السياسي، وتعزيز "مكافحة الإرهاب" على كلّ اعتبار آخر، فإنّ الاقتراحات المتداوَلة لحلّ الأزمة السوريّة إنّما تشي بتأبيد الولاءات الصغرى وإسباغ المأسسة، إن لم يكن الجوهرة، عليها.
وهذا ما كان يمكن الحدّ من آثاره السلبيّة، وتحويله إلى مقدّمة لخريطة أخرى أكثر توازناً وانسجاماً للاجتماع الوطني، لولا الظروف التي شابت وتشوب ولادته. ذاك أنّ الأحقاد الطائفيّة والإرادات الإقليميّة والدوليّة إنّما تتحكّم بهذه الولادة وتشرطها. فإذا أضفنا الأوضاع العراقيّة (والليبيّة واليمنيّة والخليجيّة...) إلى الأوضاع السوريّة، لم يبق لنا إلاّ افتراض الأسوأ في لبنان وفي سواه.
ولا نأتي بجديد إذا قلنا، في ما خصّ بلدنا تحديداً، إنّ العلاقات في ما بين الطوائف لم تكن مرّةً على السوء الذي تتّسم به اليوم. وكلّما تكاذب الزعماء مؤكّدين على التضامن الوطنيّ ووحدة المصير كان علينا أن نستمع إلى قواعدهم الشعبيّة، في البيوت والمقاهي والمؤسّسات كما في الفايسبوك وتويتر. فهنا تظهر على حقيقتها طبيعة الاستعداد اللبنانيّ لاستقبال وضع عربيّ بالغ الرداءة. |