الأثنين ٦ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٢٩, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
عن «داعش» والجيل الثاني وقطط البلجيكيين - سامر فرنجية
من إشاعة الهجوم على جامعة الكسليك إلى الإغلاق الأمني لمدينة بروكسيل، مروراً بالطائرات التي غيرت مسارها، ووصولاً إلى هجمات باريس وبغداد وبيروت وغيرها، عالم يتوحّد، وإن كان بطريقة سلبية أي كضحية لعدو واحد. لا شيء آخر يجمع تلك المواقع الجغرافية إلاّ التهديد الموحِّد، ولن يلغي هذا التوحيد السلبي الفروقات والمقامات والتراتبية. ولكن في اللحظة الاستثنائية هذه، حيث يتمّ تطبيع قوانين الطوارئ بموازاة مأسسة حالة الأزمة، تنبثق «إنسانية استثنائية»، تعرّف عن نفسها فقط كضحية لـ «داعش» أو على أنها الجميع ناقص «داعش»، وآخر تعابيرها حرب لا حدود لها على «داعش»، أكانت جغرافية أو زمانية أو قانونية.

لم ينجح «أشرار» مرحلة ما بعد الحرب الباردة في استنباط انسانية كهذه أو إجماع في وجههم كهذا، مهما ارتكبوا من مجازر وفظائع. فكان ضحاياهم إما بعيدين أو محصورين بفئات معينة، وكانت تنظيماتهم منبثقة من بقايا أيديولوجيات أو ناهضة على صراعات سياسية. لم ينبعوا من «العدم» الجامع الذي يبدو تاريخ «داعش» وبقوا جزئياً في حماية اصطفافات الماضي. أما «داعش»، فليس لها من تاريخ رسمي يعرّف بها أو مطالب تحدّد عملها ومستقبلها أو خط زماني يربط بين قضية في التاريخ وأفق لحلها يمكن من خلالهما تعريف هذا التنظيم بعض الشيء. إنسانية استثنائية، إذاً، في وجه العدم المطلق.

عدمية «داعش» لا تفسرّ نجاحها في توحيد العالم، أو بكلام أدّق، عدميتها هي الخطوة الأولى في نجاحها هذا. فصمتها سمح بتحميل هذه الحفنة من القتلة مقولات عدة، عوضّت عن سكوت هذا التنظيم وحوّلته نتيجة حتمية لعالم مشوّش و«مخربط». فـ«داعش» نتيجة أزمة الإصلاح الديني في الإسلام والأنظمة القمعية العربية والأيديولوجيات العربية الرثة وسياسات الغرب الإمبريالية والعولمة بحلتها النيوليبرالية وفشل سياسة الإندماج الغربية وصولاً إلى حرب الجزائر وحملة بونابرت على مصر.

في وجه صمت «داعش»، كثافة كلام حوّلت هذا التنظيم من تهديد إرهابي إلى خطر وجودي يتطلّب إعادة ابتكار العالم أمنياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً للسماح للانسانية الاستثنائية بالنجاة. قد يبدو تحليل كهذا أكثر «تقدمية» أو عقلانية من دعاة الحل الأمني المحض، ولكّنه يتشارك مع «داعش» في النظر إلى الأزمة الحالية كأزمة بمعناها «الإسكاتولوجي». فالطرفان، في هذه المعادلة، «داعش» ونقّادها، يتوافقان على استثنائية اللحظة التي نعيشها وضرورة الفعل كخروج من حالة الأزمة للانتقال إلى عالم جديد. إنّها لحظة الاستثناء التي تخشاها السياسة.

غير أن هذه النظرة تصطدم بالوقائع السوسيولوجية، كالتي رواها في جريدة «لوموند» الباحث الفرنسي أوليفييه روا في تفسيره «الجيلي» لظاهرة داعشيي فرنسا. فالتطرف، حسب روا، لا يطاول إلاّ من سمّاهم «الجيل الثاني» من مسلمي فرنسا، بالإضافة إلى الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام، أي أنه يستثني الجيل الأول، الحامل لإسلام ثقافي وتقليدي، والجيل الثالث الذي بات مندمجاً بفرنسا وإسلامها. وهذا ما يفسرّه الكاتب الفرنسي بفكرة «القطيعة الجيلية»، أي أنّ ما يجري ليس «تطرف الإسلام» بل «أسلمة التطرّف». فمعظم الجهاديين الجدد لم يمرّوا بالقنوات الحزبية أو الدينية المعتادة، بل كانوا خارجين عن عائلتهم وجالياتهم ومؤسساتها. سيرة الزرقاوي، أي الإنتقال من بائع في محل للفيديوات إلى أمير تنظيم جهادي، تتكرر مع جهاديي فرنسا بانتقالهم من «الجانح» إلى «الجهادي». ليس من حمولة ثقافية أو سياسية تتطلب إعادة تركيب العالم، بل أزمة سياسية وإجتماعية تطاول فئات محدّدة في فرنسا.

«الجيل الثاني» ليس طليعة تحوّل أكبر، أو إشارة إلى أزمة كونيـــة، حسب روا في معارضته لأعداء الداعشيين الثقافيين والمـــدافعيـــن أو «مفسري» أفعالهم العالم الثالثيين. هم جيل محـــدود يعاني أزمة معينة، لها سياقها التاريخي والمؤسساتي والسياسي. بهذا المعنى، هم هامشيون قطعوا مع محيطهم وباتوا، بالتالي، سجناء لهذه القطيعة التي لا مهرب لهم منها إلاّ عبر ردود الفعل الاستثنائية التي واجهت أفعالهم.

إذاً، تصوير الخطر الداعشي على فرنسا خطراً وجودياً يواجه الثقافة الفرنسية، من جان بول سارتر إلى مقاهي باريس، قد يكون تماماً المهرب الذي يحتاج إليه الداعشيون الجدد للخروج من قطيعتهم. ربّما رد البلجيكيون، الذين تجاوبوا مع دعوات القوى الأمنية بعدم البوح بمسار العمليات الأمنية بنشر صور قططهم، أكثر ذكاء في التمسك بطبيعية الحياة في وجه الخطر الأمني.

قد يعترض البعض على قراءة روا من منطلق العالم العربي، حيث قطيعة «الجيل الثاني» من الجهاديين قد تتحوّل فعلاً طليعياً لتهيئ المشرق العربي لمغامرات كهذه جراء تاريخه العنفي. ففي منطقة تتعايش مع الاستثناء بشتى أشكاله، ليس من «طبيعية» يمكن العودة إليها لتحجيم «داعش». فكما لخّص مقال في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» جرد فيه صاحبه الكتابات عن هذا التنظيم، فـ «داعش موجود لأنه ممكن له أن يوجد». في هذا التكرار للمعنى، سر «داعش» أنه حادث ناتج من تقاطع دقيق وهشّ لمسارات عدة أطلقتها الانهيارات العديدة التي طاولت المنطقة، ومن بين هذه المسارات احتلال العراق، وانهيار دول ومنظومة إقليمية، وتلاعب التمويل وسياسات الدول، وتفاقم الحرب السورية، وغيرها من الأمور. بهذا المعنى، فـ «داعش» هامشي لأنّه استثنائي، في منطقة بات الاستثناء فيها هو القاعدة، وبالتالي الهامشية.

ويمكن البحث عن أمثلة عدة في تاريخ المنطقة تحاكي حاضر «داعش»، كالقمع السياسي وفشل الإصلاح الديني وريعية الإقتصاد وغيرها من الأمور، غير أنّها لا تفسر صعود هذا التنظيم ولن تقضي عليه. ليس من إنسانية استثنائية في المشرق العربي يمكن أن تنبثق من مواجهة «داعش».

فـ «داعش موجود لأنه ممكن له أن يوجد» و «بشار موجود لأنه ممكن له أن يوجد» و «الميليشيات الشيعية موجودة لأنه ممكن لها أن توجد» و «القتل موجود لأنه ممكن له أن يوجد» و «الانهيار موجود لأنه ممكن له أن يوجد». ربّما علينا الاعتراف بأنه في لحظة الاستثناء هذه، ليس من قاعدة يمكن الإنطلاق منها لفهم ما يحصل، أو العودة إليها للهروب من «داعش» أو الاستعانة بها لتحجيم «داعش». فعلى عكس البلجيكيين، ليست لدينا قطط يمكن رفعها في وجه البغدادي، بل استثناءات أخرى، تضاهي «داعش» في عنفها.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة