الأثنين ٦ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ١٩, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
هل نعاني أزمات؟ - محمد الحدّاد
في أحد كتبه الأخيرة، دعا عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران إلى الاقتصاد في استعمال كلمة «أزمة»، معتبراً أنها تستعمل بإفراط منذ عقود بسبب الخلط بين ظاهرتين مختلفتين: الأولى ترتبط بالتحولات العميقة التي تحصل في ميادين شتّى، وقد لا تكون بارزة ولا قابلة للتوقع منذ البداية، لكنها ظاهرة طبيعية تجسّد قانون التغير الذي يحكم التاريخ والمجتمع، بل الكائنات الحية عامة. والثانية ترتبط بخلل موقت يطرأ على منظومة معينة ويتوقّع إصلاحه بعد فترة، وهي الجديرة وحدها بأن تدعى أزمة، لأن هذه الكلمة تتضمن معنى الطارئ والقابل للتجاوز.

وقد يعود الفضل إلى الفكر الاقتصادي في السنوات الأخيرة، بخاصة في أوروبا، في التنبيه إلى هذا الفارق والدفع بقوّة نحو هذا التمييز. فلم يعد الاقتصاديون يحلمون مثلاً باستعادة نسب النموّ المرتفعة وإنما يحاولون تصوّر نمط نموّ جديد يعتمد على نسب منخفضة يقابلها حدّ من الاستهلاك واحترام للبيئة. فلقد ظلّ كثيرون من الاقتصاديين مشدودين إلى فترة سابقة دُعِيَت بالثلاثين المظفرة أو السعيدة، امتدّت من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الأزمة النفطية الأولى، كانت فرص العمل خلالها وفيرة، والتضخم محدوداً، والامتيازات الاجتماعية سخية، والخدمات العامة ممتازة. وفي حين ظلت أوروبا «القارية» تحلم باستعادة هذه الفترة، كان الإنكليز والأميركيون يوجّهون إليها النقد ويعيدون التفكير في ما دعي لديهم بدولة الرفاه. فساعدهم ذلك على التكيُّف بيُسر أكثر مع تحولات الاقتصاد العالمي، بينما ظلّ الأوروبيون يتحدثون عن أزمة اقتصادية ويمنّون النفس بأن تكون مجرد سحابة عابرة تليها العودة إلى الوضع المألوف. ففاتهم استيعاب المتغيرات العميقة والتحولات الجذرية للاقتصاد العالمي، وتضاعفت مشاكلهم الاقتصادية لأنهم ظنوا أنهم يواجهون أزمة، بينما فهم غيرهم قبلهم أنهم يواجهون تحوّلات عميقة.

وقد يكون الخطاب العربي برمته وفي كل قطاعاته أوْلى من الأوروبيين بالقيام بهذه المراجعة في استعمال كلمة أزمة، الحاضرة بقوة في عناوين كتبه وندواته وصحافته. فهو مولع بهذه الكلمة يستعملها بإفراط، خالطاً المستويين اللذين أشار إليهما إدغار موران، في حين أن غالبية القضايا التي يطرحها هذا الخطاب، إن لم تكن كلها، هي من تبعات العجز عن التكيف مع التحوّلات العميقة. أما المنظومات التي تبدو مأزومة فهي منظومات متجاوَزة منذ عهد بعيد، ولا أمل أصلاً باستعادتها أو تفعيلها. ما معنى الحديث عن أزمة الحكم إذا كان مفهوم الدولة الوطنية محلّ جدل وممانعة من قوى أساسية في المجتمع؟ وما معنى الحديث عن أزمة اقتصادية إذا ظل الاقتصاد ريعياً يعمل على شاكلة اقتصادات الحروب والغلبة في عصور ما قبل الحداثة؟ وما معنى الحديث عن أزمة الثقافة إذا ظل المثقف كائناً ملعوناً في المدينة لا تعترف الغالبية بأدواره المفترضة في تطوير المجتمع وتوجيهه؟

الخطاب العربي يواجه منذ العصر المدعوّ بالنهضة تحوّلات عالمية جذرية ولا يواجه أعطاباً طارئة، يمكن أن تطلق عليها كلمة أزمة. وهو يتخفّى وراء كلمة أزمة كي لا يتحمّل المخاض العسير لهذه التحوّلات. وإذا كان الغرب ينتقد اليوم فترة الثلاثين السعيدة ودولة الرفاه باعتبارهما وهماً وزيفاً، على أساس أن الازدهار الاقتصادي الاستثنائي آنذاك لم يحصل بسبب حسن التسيير وإنما كان نتيجة استثنائية لوضع استثنائي، إذ مات الملايين من البشر أثناء الحرب فظلت فرص العمل كثيفة أمام الجيل التالي، فإن الفترات المظفرة والسعيدة التي يحتفظ بها الخطاب العربي ويحلم باستعادتها هي أكثر إيغالاً في الوهم والزيف، وأكثر ممانعة أمام المراجعة النقدية، وأشدّ وطأة في التأخير بالفهم السليم للمشاكل والتجاوز الحقيقي للمعوقات.

هذا نداء إلى كلّ الكتّاب العرب: رجاء، اقتصدوا في استعمال كلمة أزمة، واستبدلوها بجدلية الممانعة والتحوّل، كي تتضح بجلاء المهمات الحقيقية التي ينبغي على الخطاب العربي التفكير فيها والمساهمة في تحقيقها.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة