الأحد ١٩ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ٢٣, ٢٠١٢
المصدر: جريدة الحياة
الغموض الهدّام - حازم صاغية
جاء في إحدى الدعابات الفيسبوكيّة ما مفاده أنّ المصريّين كلّهم سعداء هذه الأيّام: فالذين يؤيّدون «الإخوانيّ» محمّد مرسي فرحون بفوزه، والذين يؤيّدون «الفلوليّ» أحمد شفيق فرحون بفوزه هم أيضاً، وأنصار «المجلس العسكريّ» فرحون، بدورهم، بأنّ أيّاً من المرشّحين لم يفز، أمّا الذين يحبّون حسني مبارك ففرحون ببقائه على قيد الحياة، فيما الذين يكرهونه فرحون بوفاته.
 
وهي لوحة بالغة التعبير عن حال التخبّط والغموض في مصر، حيث الأخبار نفسها صارت ذاتيّة جدّاً ونسبيّة جدّاً، حتّى بات في الإمكان لنصف الشعب أن «يصدّق» خبراً «يصدّق» نقيضَه نصفُ الشعب الثاني، وللنصف أن يتوقّع العكس الكامل لما يتوقّعه النصف الثاني.
 
ويجسّد هذا الطيران المتضارب خارج الواقع والوقائع إحدى سمات انعدام المعنى والوجهة. فمن هذا القبيل مثلاً قيل في جمهوريّة فايمار الألمانيّة، التي نشأت بعد صلح فرساي في نهاية الحرب العالميّة الأولى، إنّ الجميع فيها سعداء: الديموقراطيّون سعداء لأنّ النظام ديموقراطيّ، وأعداء الديموقراطيّة سعداء أيضاً لأنّهم واثقون من هشاشة الديموقراطيّة ومن سقوطها القريب، والفنّانون والمبدعون سعداء لأنّ الفنّ يعيش عصره الذهبيّ، وخصوم الفنّ كذلك لأنّهم يتهيّأون للقضاء على الفنّ «المنحطّ» وهم متأكّدون من نجاحهم في ذلك.
 
وعلى رغم الاختلاف بين المثالين، يبقى أنّ القاسم المشترك هو ضعف القاعدة التي ترتكز إليها الديموقراطيّة، فضلاً عن ضعف القاعدة التي يرتكز إليها الاستبداد. ولئن تولّت ثورة يناير إثبات الضعف الثاني والبرهنة على أنّ أنظمة كالنظام المباركيّ فقدت قدرتها على الحياة، فإنّ الثورة نفسها أثبتت أنّ الممكن هو طريق انتقال، متعثّر ومتناقض وخطِر، إلى الديموقراطيّة، وليس الديموقراطيّة نفسها.
 
فتضافر الدور الحياديّ للجيش، والوزن الكبير للإسلاميّين، والتبعثر المدهش لقوى المعارضة... تشي في مجموعها بالقدرة على إطاحة حسني مبارك وحاشيته، من دون القدرة على إنشاء نصاب ديموقراطيّ مستقرّ. وفي المعنى هذا تغدو العمليّة الانتخابيّة مرآة لغموض الإرادات وتضاربها أكثر منها مرآة للإرادة الشعبيّة، ولوحةً ترسم الاستحالات السياسيّة أكثر منها وجهةً تشير إلى احتمالاتها.
 
بطبيعة الحال يبقى أنّ عناصر كثيرة من هذه الحال مصنوعة، تولّى «المجلس العسكريّ» صناعتها بالاستفادة من أخطاء المعارضين وتفتّتهم. بيد أنّ الصناعة ما كانت لتتمّ لولا شروط موضوعيّة تتعدّى الأخطاء والتفتّت. ولنتذكّر، مثلاً، أنّ النظام المصريّ، بالمعنى العريض للكلمة، استطاع الحفاظ على بُنيته الاستبداديّة على رغم الانتقال من الناصريّة إلى الساداتيّة، وبينهما ما بينهما من فوارق، ثمّ من الساداتيّة إلى المباركيّة. وهذا علماً بأنّ وفاة ديكتاتور كفرانكو في أسبانيا، أو إطاحة طغمة من العسكريّين في اليونان، كانا كافيين لانتقال المجتمعين المذكورين إلى الديموقراطيّة، أي لتفعيل البذور الديموقراطيّة، الكامنة والمتأهّبة، في ذينك المجتمعين.
 
فإذا ما تحقّق «الصدام الواسع المرتقب» بين الإسلاميّين وخصومهم، والذي تحذّر منه وسائل الإعلام، وسط أزمة اقتصاديّة متفاقمة واضطراب مجتمعيّ واسع، أمكن للغموض أن يصير نظاماً، أو أن ينفجر نزاعاً لا يُرأب بعده المجتمع والدولة المصريّان. ومرّة أخرى تُدفع أكلاف التاريخ والاجتماع الباهظة، معطوفة على أكلاف نظام استبداديّ وتافه في وقت واحد.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة