الجمعه ١٩ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تموز ٢٠, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
«البعث» و «داعش»... هل نشبههما حقاً؟ - عمر قدور
لم يصبح بعيداً بعدُ، الزمن الذي كنا نُتهم فيه بأننا بعثيون. الآن أصبحت التهمة الرائجة أننا «دواعش»، وما بينهما عشنا برهة قصيرة تحت ما سُمِّيَ الإسلام المعتدل. نحن قوم يسهل إطلاق الأحكام علينا، ويسهل تنميطنا، ونحن أنفسنا مولعون بتنميط ذواتنا وتنميط الآخرين، كما يدلل على ذلك بعضٌ من السائد ويسعى إلى إقناعنا به نهائياً بعضه الآخر. ليست لدينا ملامح أو سمات اجتماعية أو ثقافية، لذا يجري تحقيب أزماننا وفق ما تكون عليه سلطاتنا، وما تقرره هي أيضاً. هكذا، على سبيل المثل يُقال: سورية في عهد الأسد أو "البعث"، وعلى الأرجح لا يُضاف شيء بعد هذا التحقيب الذي يحيل البلاد إلى شخص أو حزب، تماماً مثلما درسنا التاريخ بصفته عهوداً من الخلفاء والملوك، أو مثلما نقول ألمانيا النازية فيمتنع بعد هذا الوصف كل وصف آخر.

إسلاميون وليبراليون ويساريون ومثقفو سلطة، يشتركون في إحالة السلطان إلى بنية الشعوب، فيمنحون عن قصد أو من دونه الأنظمة المستبدة والتنظيمات المشابهة لها، ما لا تحلم به من شرعية تمثيلية، كأن لسان حالهم هو الحديث النبوي المختَلَف عليه: «كيفما تكونوا يولَّ عليكم». هكذا، يبدو الاستبداد عصارة العقل الجمعي، إذا جاز القول بوجوده، مع أن قولاً من هذا القبيل يضمر أيضاً التنميط نفسه، إذ يتحدث عن عقل مستقر بدل الحديث عن ثقافة زمنية غالبة.

سيكون سهلاً دائماً القول إن أنظمة الاستبداد لم تهبط علينا من كوكب آخر، وإنها نتاج مجتمعاتنا، لكن الاستسهال يبدأ بإطلاق هذه «الحكمة» بلا تمحيص في علاقات القوة البينية ضمن المجتمع ذاته، أي من دون الوقوف على منابع السلطة الفعلية التي لا تتعلق بالكثرة الاجتماعية بمقدار ما تعمل للإمساك بها. والسلطة، وفق هذا التصور، معطى ثابت يرتكز على بنية مقيمة، وهي ممتنعة عن التغيير من تحت، لأن الـ «تحت» سيعيد إنتاجها هي ذاتها على هيئة مغايرة.

لم تنجح الثورات العربية في زحزحة هذا الاعتقاد، وسرعان ما جرى اختزال الصراع داخل بلدانها بصفته صراعاً بين الإسلاميين والعسكر، وإذ تغلبت الوصفة الأخيرة (القديمة المتجددة)، حققت نجاحاً لافتاً في التغطية على التناقضات العميقة والمعقدة التي أدت إلى الانفجار الكبير.

ثمة مجتمعات لم تُقرأ كفايةً، أيضاً بسبب هيمنة الاستبداد على مصادر المعرفة الخاصة بها، لذا قد يكون الجزم بماهيتها على قياس ادعاء الأنظمة تمثيلها. لا تخرج عن الإطار ذاته قلةُ معرفة المجتمعات بذاتها، ما يجعلها أسيرة تكهنات حول نفسها وحول كل فئة من فئاتها. الطوق الاستخباراتي المضروب حول المجتمع لا يطاول فقط الفعالية السياسية، بل يجعل الأخير باضطراد أقل معرفة بأحواله المتنوعة، وهو طوق يمنع الخارج أيضاً من معرفته. هذا يجعل الفئات القليلة الفاعلة أكثر بروزاً وانكشافاً، مثلما يظهّرها على أنها الفاعل الوحيد الممكن، أو يمنحها وزناً تمثيلياً مبالغاً فيه على حساب الشرائح الأعم، الصامتة غالباً.

في مناسبة الثورات، ثار جدل بين الأنظمة والثائرين عليها حول أحقية كل طرف في تمثيل الفئة الصامتة، وهي الأكثرية في دولها. الخوف، وهو أمر مشروع، لا يكفي وحده لتبرير الصمت ما لم يقترن بعدم انخراط هذه الفئة في فعالية اجتماعية أو اقتصادية ناهضة ومتطلبة للتغيير. قسم لا يُستهان به من الفئة الصامتة يتساوى لديه بقاء الأنظمة مع رحيلها، لأنه تمرن طويلاً على موقع الخامل سياسياً واقتصادياً، في بلدان تحتكر أنظمتها السياسة والاقتصاد، بالأحرى يرى نفسه منفصلاً تماماً عن السلطة، لا مصدر أو قاعدة لها.

الكلام عن أيديولوجيا محتملة يعتنقها هؤلاء بالمعنى السياسي المباشر ضرب من التكهن، وقد يرقى أحياناً إلى منزلة المصادرة على النيات. هواة أو محترفو التجريد الأيديولوجي وحدهم قادرون على إطلاق أحكام معممة في حقهم، أو إطلاق أحكام بلا رحمة.

الميل إلى التطرف، في مثل هذه الظروف، قول لا يقل مصادرة إذ يسعى إلى التعميم، فهو يصحّ بنسبة أكبر على المنخرطين مباشرة في الصراع السياسي، وهو نتاج احتدام الحرب بين مصالحهم أو تطلعاتهم. في سورية، حيث الصراع في أوجه، يستهدف النظام سكان المناطق المحررة عشوائياً، فقط بسبب شبهة تأييدهم كتائبَ المعارضة، والأمر لا يختلف عما يفعله «داعش» إذ يُخضِع السكان للاستنابة من أجل السماح لهم بالعودة إلى بيوتهم ومصادر أرزاقهم. ولا نغامر بالقول إن سكان المناطق المحررة ليسوا جميعاً، وليسوا بالضرورة، حاضنة شعبية للثورة أو لـ «داعش» وأشباهه مثلما هم ليسوا موالين للنظام. فبعض السكان تقطعت به سبل النزوح وبعضهم من الفئات الأكثر بؤساً التي لا تستطيع تحمُّل أدنى كلفة للنزوح الداخلي أو الخارجي. تُضاف هذه الشرائح إلى الكتلة الضخمة من النازحين الذين توقفت فعاليتهم في أماكنهم الأصلية، بعدما كانت شبه معدومة لعقود طويلة.

في سورية والعراق جوبهت إرادة التغيير الديموقراطي السلمي بالقوة والوحشية. في سورية تحديداً سُحِقت الحاضنة الشعبية لإرادة التغيير بين قتل وتشريد واعتقال، ولا يوجد دليل يُعتد به على إرادة الناس سوى تلك التظاهرات الحاشدة التي شهدتها المدن السورية، وسيكون من التعسف الحكم على مزاج السوريين أو إرادتهم وهم مغيَّبون... الأمر الذي قد يصح أيضاً في بلدان لم تشهد الدرجة نفسها من التنكيل، لكنها شهدت قطعاً لتباشير التحول الديموقراطي. اختُزِل الصراع واقعياً إلى القوى الممسكة بزمام السلطة والقوة، على حساب القوى التي دفعت إلى الثورات، القوى الشعبية كانت جُرِّدت تماماً من مكامن القوة، فلا هي ذات وزن اقتصادي فاعل ولا هي تمتلك أدوات الحرب. هذا هو الانسداد الذي أوصل قبل ثلاث سنوات ونصف سنة إلى الثورة، وتكريسه اليوم بدعاوى أيديولوجية مختلفة لن ينفع سوى في ترحيل الأزمات إلى وقت لاحق. السلطة الشمولية وحدها، بكل أنواعها هي التي تعتاش على الأيديولوجيا، أما ضحاياها فأكثر بؤساً من أن يستحقوا هذا الترف.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة