الأثنين ٦ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ١٨, ٢٠١٤
المصدر: موقع العربي الجديد
تضييق على الجمعيات التونسية وتنازل عن حريات - المهدي مبروك
المعركة التي تخوضها تونس ضد الإرهاب، منذ أكثر من سنتين، بنسق متفاوت، مشروعة، بل واجبة، تقتضي تعبئة مواطنية شاملة. ولكن، هناك خشية متنامية من أن تهيج غرائزنا، وأن تقودنا، في غضون ذلك، إلى التضحية بعقولنا، وتدفعنا إلى الانقلاب الناعم على  المنجز النحيل الذي تم للتونسيين اكتسابه إلى الآن: الحرية والدستور، خصوصاً وأن ذاكرة التونسيين تحتفظ بتجارب مريرة مع  "دولة القانون والمؤسسات" التي من فرط استعمالها من نظام بن علي فقدت شحنتها الدلالية، فضلاً عن انعدام  الثقة فيها، ما ينسحب على مئات من المصطلحات والمفاهيم الأخرى التي كان النظام يصيبها عن دراية بتضخم دلالي، يفقدها جاذبيتها المعبأة ويستنزفها، حارماً بذلك النخب من جعلها عناوين نضالات مشروعة.

على خلاف تلك الشعارات التي يعلنها نظام سياسي حداثي من آخر طراز، تم تطويع مؤسسات الدولة والقانون، لتبرير أشد ممارسات النظام القمعية. لا شك أن نخباً جامعية "حداثية"، تربى جُلها في حضن اليسار، كانت ترصد ميلاد آخر المفاهيم والنظريات، للالتفاف عليها، حتى تقدمها وجبة دسمة للاستهلاك الخطابي. كان نظام بن علي من أشد الأنظمة شراهة وإقبالاً على استنزاف المصطلحات واستهلاكها. نظام مولع باحتساء المصطلحات بسرعة فائقة، على عادة أصحاب الجلسات المغلقة لحرافيش الليل.
 
حدثت ثورة، واكتشفنا عبر ما أمكن نشره، وفاضت به الوثائق الملقاة على قارعة الطريق، والمتناثرة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، على إثر ما أصاب المقرات الأمنية وبعض المحاكم والإدارات من إتلاف، كيف كانت مصائر البلاد وأرواح العباد في قبضة الأمزجة الفاسدة، وكيف تم تطويع القانون ومؤسسات الدولة فيما ذهبت إليه تلك الأهواء.
 
تخوض تونس، إلى حد الآن، تجربة فريدة واستثنائية في الانتقال الديمقراطي، ما يجعلها حالة "بيداغوجية" جديرة بالدراسة، خصوصاً إذا نجحت. لم تستعد البلاد أنفاسها من ثورتها، حتى ارتكبت الجماعات الإرهابية، بعد أربعة أشهر من سقوط النظام، أولى عملياتها (الروحية)، كان ذلك في مايو/أيار من سنة 2011، في ظل حكومة الباجي قائد السبسي.
 
تحركت الجماعات الإرهابية بالسرعة القصوى، مستفيدة من انفلات حدودي على المستوى الإقليمي، وشلل جزئي، أو كلي، أصاب القوى الأمنية والعسكرية في بعض دول الجوار، وسوء تقدير الحكومات المتعاقبة، فغيّرت من تكتيكها، ونوعت عملياتها، حتى أصبح الإرهاب حالة حرب معلنة ضد البلاد، وضد الانتقال الديمقراطي ذاته.
 
وما كان لهذا الإرهاب أن يبلغ مردوديته المدمرة، لولا رغبة أنظمة أجنبية وعربية في إجهاض التحول الديمقراطي. تولت المجموعات الإرهابية، في مناولة فاسدة، تشكيل يد عاملة رخيصة، تنجز ما يتم رسمه من مخططاتٍ استخبارية دقيقة. المطلب المزعوم للمجموعات الإرهابية؛ تحكيم الشريعة، في حين أن المطلب الضمني لتلك القوى الإقليمية إجهاض الانتقال الديمقراطي.
 
يتعثر التصويت حاليّاً على قانون الإرهاب وتبييض الأموال، المعروض على المجلس التأسيسي، على الرغم من أن للبلاد قانوناً من أكثر القوانين تشدداً، بل تعسفاً، وكان الحقوقيون يعتبرونه منذ سنه 2003 "سيئ الصيت". في انتظار ذلك، تقود الحكومة حرباً استباقية على الجمعيات التي تعلقت بها شبهات حول الإرهاب، تتحرك آلة السلطة التنفيذية الهائجة شهوتها، فتتخذ إجراءاتٍ تستهدف، بشكل خاص، تجميد الجمعيات، أو إغلاقها بشبهة دعم الإرهاب خطاباً أو تمويلاً. ستصيب الحكومة قليلاً، لكنها ستتعسف كثيراً في استعمال ما لها من سلطات تقديرية واسعة، في مخالفة صريحة للدستور، ولقانون الجمعيات ذاته.

أن يذهب القضاء العادل والمستقل إلى مثل هذه الحلول؛ فذلك ما كنا نتمناه، حتى لا تطل علينا ممارسات "بنعلية" من جديد. خلية الأزمة الحكومية التي تشكلت منذ نحو شهر، أقدمت، في أقل من أسبوعين، على غلق نحو مائتي جمعية، وكانت القرارات مأخوذة من الولاة (المحافظين)، في ظل شكوك تم طمرها تحت ضغوط الرباعي للحوار الضامن في تكنوقراطية الحكومة الحالية وحيادها.
 
ويظل أغرب ما تم الإعلان عنه، سلسلة حوافز ومكافآت مادية لتشجيع التونسيين على الإدلاء بمعلوماتٍ، ذات صلة بتحركات المجموعات الإرهابية. كنا نتمنى على الحكومة، إلى جانب تفعيل الأنظمة الاستعلامية الخاصة، والارتقاء بها إلى أقصى جاهزيتها، وفاعليتها بعد، ما أصابها منذ الثورة، تفكك وتحلل رهيبين، أن تتم مخاطبة وطنية الناس، للتعاون مع الأجهزة ذات الاختصاص، فالمواطن المنخرط في المشروع، يظل الجندي الأمامي في مثل هذه المعارك، أما  شراء المعلومات بهذا الشكل، فيذكّرنا بما كانت تقوم به لجان اليقظة ولجان الأحياء، حيث نشطت سوق الوشاية الرخيصة التي باع الناس فيها، بعضهم بعضاً نكايةً وتشفيّاً، مقابل الحصول على رخص مقاهي وأكشاك، أو حفنة من علف الدواب.
 
لن يكون الدستور ضامناً لحقوق وحريات، دفعنا من أجلها دماء غزيرة، ولن تكون حتى المحكمة الدستورية، التي ننتظر قريباً إنشاءها، منصفةً فيما نختلف بشأنها من نصوص قانونية، قد تتطابق أو لا مع الدستور، ما دام الناس يبالغون، عن سوء نية أحياناً، وعن سوء تقدير أحياناً أخرى، في حسن الظن بالسلطة التنفيذية. نضج المجتمع المدني الذي به نتباهى يحتاج إلى مراجعة نقدية، ولقد رأينا كيف يصمت هذا المجتمع إلى حد التواطؤ، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ورأيناه، أيضاً، كم من مرة لا ينتصر إلى مبادئ الثورة، وفي مواضع عدة كان يكيل بمكاييل مختلفة، فتورط في هتك أعراض الناس وتشويه الحقائق، ودافع سنةً عن إعلاميين، كان عنوان الفساد المادي والسياسي، والأمثلة عديدة.
 
المجتمع المدني الذي سطرناه غداً، في مواقع عدة، أداة طيعة تتلاعب بها لوبيات ومصالح حقيقية. مثل هذه الحقيقة جعلت من الناشطة المدنية، ليليا مهني، تضيق به، وتتهمه بأنه مهووس بمعارضة حركة النهضة لا غير.
 
ولم تعبر المنظمات الوطنية عن موقف واضح مما يحدث حاليّاً، إلا بشكل خجول، وذلك ما جعل السلطات التقديرية للولاة (المحافظين) تتمدد بشكل توسعي مخيف. إذ يتنافس الولاة حاليّاً في مسابقةٍ، عنوانها كم تغلق من جمعية في الأسبوع، للدلالة على فائض وطنيتهم وولائهم الجمهوري الخالص، ولو خالفوا القانون. تمنينا أن تتخذ خلية الأزمة إجراءات صارمة لمكافحة التهريب، ففي تلك الأكياس التي تلكأ الديوانة عن فتحها يوم زارهم رئيس الحكومة، وفي طرقاتٍ، يشتريها بارونات التهريب، تمتد من أقصى نقطة في البلاد إلى أبعد محطة في العالم، تمام دمى الصبية الوديعة المعروضة على أمتار قليلة من مبنى وزارة الداخلية، في أحضان أشد قطع السلاح فتكاً. لن تتجرأ خلية الأزمة، ولن تفعلها الآن، لأنها تعلم أنها لن تطيق تحمل لسع دبابير، تيقنت أن أصابع ما امتدت لتخرّب عشها.
 
قاوم الإرهاب واحم وطنك فذلك واجب، ولكن واجب الواجبات أن تلتزم في ذلك كله بقانون يحميك، ويحمي مواطنة الجميع.

المهدي مبروك وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي. 


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
احتجاجات ليلية قرب العاصمة التونسية ضد انتهاكات الشرطة
البرلمان التونسي يسائل 6 وزراء من حكومة المشيشي
البرلمان التونسي يسائل الحكومة وينتقد «ضعف أدائها»
الولايات المتحدة تؤكد «دعمها القوي» لتونس وحزب معارض يدعو الحكومة إلى الاستقالة
«النهضة» تؤيد مبادرة «اتحاد الشغل» لحل الأزمة في تونس
مقالات ذات صلة
أحزاب تونسية تهدد بالنزول إلى الشارع لحل الخلافات السياسية
لماذا تونس... رغم كلّ شيء؟ - حازم صاغية
محكمة المحاسبات التونسية والتمويل الأجنبي للأحزاب...
"الديموقراطية الناشئة" تحتاج نفساً جديداً... هل خرجت "ثورة" تونس عن أهدافها؟
حركة آكال... الحزب الأمازيغيّ الأوّل في تونس
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة