الجمعه ٣ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ١٩, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
أسئلة ما بعد الموصل - كرم الحلو
تحدثت التقارير أخيراً عن هجرة مسيحية جماعية من الموصل بعد أن خيّر تنظيم «داعش» المسيحيين بين دفع الجزية أو الرحيل أو حد السيف، في عملية تطهير عنصري لهؤلاء أشبه ما تكون بإعادة تركيب للمكونات التاريخية للمشرق العربي. فقد أحرقت مطرانية السريان التاريخية في المدينة ووضع حرف «ن» على أبواب منازل المسيحيين الذين يعود وجودهم التاريخي في الموصل إلى أكثر من 1500 عام، تمهيداً لتهجيرهم من أرضهم التي عاشوا فيها على الدوام من دون أن يتعرضوا لمثل هذا التهديد الاستئصالي في أرواحهم وممتلكاتهم.

بالعودة إلى التاريخ القريب بدأت هجرة المسيحيين العراقيين في أعقاب الاحتلال الأميركي عام 2003. فوفق الإحصاءات المتداولة وصل عدد مسيحيي العراق إلى 850 ألفاً قبل الاحتلال الأميركي، هاجر منهم حوالى 40 ألف عائلة بعد حوادث تفجيرات الكنائس في بغداد. وقد وصف في حينه البطريرك عمانوئيل دلي كبير أساقفة الطائفة المسيحية في العراق محنة المسيحيين العراقيين بالقول: «إنهم يعيشون محنة محزنة وأليمة، خصوصاً في الموصل بعد إقدام جماعات مسلحة على مطالبتهم بإشهار إسلامهم أو دفع الجزية».

كذلك، يعيش المسيحيون السوريون اليوم محنة مماثلة. فخلال ثلاث سنوات ونصف من عمر الأزمة في سورية وصل التمييز العنصري ضد المسيحيين إلى الذروة من خلال الاستهداف الممنهج لقراهم والاستيلاء على أكثر مناطقهم قدسية وتاريخية، فضلاً عن تعرضهم لاعتداءات كثيرة، جسدياً ومادياً ومعنوياً، من اختطاف المطرانين بولس اليازجي ويوحنا إبراهيم، إلى اقتحام مدينة معلولا، آخر المدن الناطقة بلغة المسيح، وتخريب كنائسها وخطف راهباتها، إلى خطف الراهب فرنسوا مراد وعرض مشاهد لقطع رأسه، إلى الهجوم على مدينة كسب ذات الغالبية المسيحية الأرمنية واضطرار سكانها للنزوح، ومحاصرة قرى مسيحية في القصير وصولاً إلى فرض «داعش» الجزية أو حد السيف على مسيحيي الرقة.

بالإجمال نتيجة التهديدات والاعتداءات بلغ عدد المسيحيين النازحين داخل سورية وخارجها 450 ألفاً، من بينهم نصف سكان مدينة يبرود، فيما قتل 1200 مسيحي وتعرضت 60 كنيسة للتخريب والتدمير، واضطر سكان 24 قرية مسيحية للهرب.

تأتي هذه الانتهاكات متوجة لنزيف تاريخي طاول الوجود المسيحي في الشرق العربي بما ينطوي عليه من معانٍ ودلالات تعبر عن مأزق حضاري حاد يواجه الأمة العربية في المرحلة الراهنة، فقد دق بطاركة الشرق الكاثوليك عام 2006 نفير الخطر على الوجود المسيحي في الشرق محذرين من ضعف ووهن انتماء المسيحيين إلى المنطقة، إذ تراجع مسيحيو القدس من 45 ألفاً في الأربعينات إلى 5 آلاف مطلع هذا القرن، وتراجع المسيحيون السوريون من 16.5 في المئة من سكان سورية قبل ربع قرن إلى أقل من 10 في المئة، كما عرفت مصر هجرة قبطية متزايدة في خلال العقدين المنصرمين. باختصار بقي أقل من عشرة ملايين مسيحي في العالم العربي بين أكثر من 300 مليون من الديانات الأخرى. ومما لا شك فيه أن هذه الأرقام والمؤشرات تدعو إلى القلق والريبة في وقت يتعرض فيه مسيحيو العراق وسورية وسواهما من البلدان العربية إلى محن وبلايا ربما كانت الأقسى والأفدح على مدى التاريخ العربي كله.

من الصحيح أن المسيحيين لم يتمتعوا بالمساواة الشرعية والعملية في المجتمعات العربية في ظل الحكم الإسلامي، إلا أنهم لم يعرفوا إرهاباً فكرياً ولا يروي التاريخ العربي حادثة واحدة يمكن تشبيهها باضطهادات محاكم التفتيش الإسبانية للمسلمين واليهود، أو اضطهادات الكاثوليك والبروتستانت بعضهم بعضاً في القرون الوسطى. لقد استوعب التاريخ العربي وإن بصورة محدودة التعدد والاختلاف، بل إنه حفل بصور مشرقة للاعتراف بالآخر وتقبل المختلف الديني والعقائدي ورعايته واحتضانه. ووفق جرجي زيدان في «تاريخ التمدن الإسلامي»، فإن المسلمين إبان تمدنهم أطلقوا حرية الدين لرعاياهم، على اختلاف طوائفهم ونحلهم، فلم يسمع أنهم أكرهوا طائفة من الطوائف على الإسلام تعصباً للدين. ولم يكن المسلمون في صدر الإسلام يتعرضون للمسيحيين في شيء من طقوسهم الدينية ولا أحوالهم الشخصية ولا أحكامهم القضائية، بل إن الخلفاء الراشدين كانوا إذا أنفذوا جيشاً للفتح أوصوا قوادهم بأهل الذمة خيراً، لا سيما النصارى ورهبانهم. أما في صدر الدولة العباسية فقد كان الخلفاء يكرمون الأساقفة ويجالسونهم، وكانوا يحاورونهم في الدين ويناظرونهم، ويظهرون احترام دينهم، حتى أصبح النصارى يهدون الخلفاء أيقونات بعض القديسين فيقبلونها منهم.

لكن هذا لا ينفي أن المسيحيين كانوا يتعرضون للاضطهاد في أزمان الانحطاط. فقد اضطهدوا أثناء الحروب الصليبية وبعدها، واضطهدوا في مرحلة انحطاط الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، واضطهدوا في الحروب الأهلية التي كان يحرض عليها الأجانب في غاية مبيتة للإساءة إلى الحضارة العربية وفرض الأحادية الأصولية على الأمة العربية لإبقائها رهينة التخلف والنزاعات الأهلية والسيطرة الأجنبية.

أما أن يبلغ اضطهاد المسيحيين الحد الاستئصالي الذي بلغه الآن، فذلك ما لا يمكن تبريره في أي شكل من الحجج والذرائع الأيديولوجية، إذ إن المسيحيين لم يكونوا يوماً جسماً غريباً ناتئاً في العالم العربي كي يهددوا ويهانوا ويعمل على استئصالهم من مواطنهم. فالتاريخ يؤكد تجذر المسيحيين في الأرض العربية. كان لهم حضارتهم وثقافتهم وشعراؤهم قبل الإسلام، واستمروا كذلك بعده حيث ساهموا مساهمات كبرى في الحضارة العربية الإسلامية وحملوها في وجدانهم ثقافة ولغة وتراثاً. وهم تصدوا لبعث اللغة والتراث العربيين في زمن الانحطاط، فكان منهم المطران جرمانوس فرحات الحلبي الذي كان له الفضل في ترسيخ اللغة العربية في عصر غلبت فيه العجمة على العربية، ومنهم بطرس البستاني مؤلف قاموسي «محيط المحيط» و «قطر المحيط» ومؤسس «نفير سورية» أول نشرة سياسية في العالم العربي و «الجنان» أولى المجلات الأدبية العلمية. ومنهم رزق الله حسون صاحب «مرآة الأحوال» 1855، وخليل الخوري صاحب «حديقة الأخبار» 1858، وفارس الشدياق صاحب «الجوائب» 1860.

ومن هؤلاء اليازجيان ناصيف وإبراهيم، وفرنسيس ومريانا المراش وسليم البستاني وفرح أنطون ونجيب العازوري وأمين الريحاني، وقد ساهم هؤلاء جميعاً مساهمات مركزية في التاريخ العربي، ما يطرح أسئلة مربكة ومريبة: فهل من الإنصاف والعدل اعتبار المسيحيين كياناً دخيلاً على المجتمعات العربية تجب إزالته على ما هو جارٍ الآن في سورية والعراق؟ هل يعاقب المسيحيون على دورهم التنويري في النهضة العربية ومناداتهم بالمواطنية والعروبة والوحدة وحقوق الإنسان والمرأة؟ هل هو انقلاب ظلامي على القضايا العربية الكبرى، قضايا التنور والنهضة والتقدم، وارتداد إلى ظلامية القرون الوسطى؟ هل هي إعادة محاكمة للدولة المدنية العقدية التي كان المسيحيون المشرقيون من روادها؟ هل هي أحكام تأخر تنفيذها، أم إنها إدانة بمفعول رجعي لأديب اسحق ومارون عبود وميشال شيحا وقسطنطين زريق لما بشروا به من قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان؟

إزاء هذه التساؤلات نرى أن ما يجري ليس إلا الدليل المأسوي ليس على إخفاق حركة الحداثة العربية كافة في أشكالها السياسية والاجتماعية والفكرية فحسب، بل على التنكر والرفض لكل الوجوه المشرقة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية الرحبة وإسقاطها بالكامل.

* كاتب لبناني



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
الرئيس العراقي: الانتخابات النزيهة كفيلة بإنهاء النزيف
الرئيس العراقي: الانتخابات المقبلة مفصلية
«اجتثاث البعث» يطل برأسه قبل الانتخابات العراقية
الكاظمي يحذّر وزراءه من استغلال مناصبهم لأغراض انتخابية
الموازنة العراقية تدخل دائرة الجدل بعد شهر من إقرارها
مقالات ذات صلة
عن العراق المعذّب الذي زاره البابا - حازم صاغية
قادة العراق يتطلّعون إلى {عقد سياسي جديد}
المغامرة الشجاعة لمصطفى الكاظمي - حازم صاغية
هل أميركا صديقة الكاظمي؟ - روبرت فورد
العراق: تسوية على نار الوباء - سام منسى
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة