الأثنين ٦ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ١١, ٢٠١٤
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
مصر: ليس دفاعاً عن الصحافة القومية! - السيد يسين
المشهد السياسي الذي أعقب 30 يونيو وما تلاه من تغييرات جوهرية في بنية النظام السياسي المصري وخصوصاً إصدار دستور جديد وانتخاب "عبد الفتاح السيسي" رئيساً للجمهورية ساده جمود شديد.
 
مؤشرات هذا الجمود الصفقات العقيمة لما سمي التحالفات السياسية استعداداً للانتخابات البرلمانية المقبلة، حيث يسود الجو ضباب كثيف بحيث لا تعرف المؤتلف لماذا ائتلف والمنشق لماذا انشق!

لذلك قررت الانصراف عن الكتابة في السياسة موقتاً. وأريد اليوم استمراراً في هذا الخط أن أعالج موضوع الإعلام والصحافة القومية. وأبدأ بإعطاء تشخيص دقيق للإعلام الورقي والمرئي. فبالنسبة للإعلام الورقي ليس خافياً على أحد أن الصحافة القومية لم تعد هي المسيطرة على السوق، لأن هناك جرائد ومجلات خاصة متعددة صدرت وبعضها يمثل إضافة قيمة للصحافة المصرية، وأصبح لها قراؤها ومتابعوها. في حين أن بعضها الآخر سيطر عليه رأس المال الذي يملي على من يديرون بعض الصحف والمجلات سياستها التحريرية، مما جعل بعض هذه الصحف تمارس الابتزاز جهاراً نهاراً، بل إنها تفننت في اغتيال الشخصيات بدون مراعاة لأبسط قواعد أخلاقيات مهنة الصحافة، ولكن شهوة الانتشار والشهرة والتوزيع جعلت بعض أبناء مهنة الصحافة الرفيعة أسرى هذه الممارسات المتردية.

حدث ذلك في الواقع في فترة انزوت فيها الصحافة القومية، التي كانت لعقود تصوغ المزاج العام للجمهور، وتنور القارئ احتراماً لقيم رفيعة آمنت بها وفي مقدمها الدفاع عن الدولة الوطنية، ومراعاة ثوابت الأمن القومي، والذود عن حقوق الشعب في مجال الحريات والعدالة الاجتماعية، وقبل ذلك كله القيام بدور تنويري بالغ الأهمية يقوم على أساس تدعيم نموذج الدولة المدنية، ونقد نموذج الدولة الدينية. والقيام بنشر الإبداعات المتميزة في الأدب والفن، وبكل ألوانه عموماً، وخصوصاً الأدب الروائي والقصصي والمسرحي، بالإضافة إلى متابعة الإبداع في مجالات الموسيقى والفنون التشكيلية.

اكتشفت فوراً وأنا أسجل هذه السطور أنني أتحدث عن جريدة "الأهرام" في الستينات! حيث كان يكتب فيها نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي والدكتور لويس عوض والدكتورة بنت الشاطئ وثروت أباظة، وحيث كان يكتب فيها في مجال السياسة لطفي الخولي وإسماعيل صبري عبد الله وغيرهم من مفكري اليسار المبدعين!

لم تكن الأهرام فقط هي التي تسود مجال الصحافة القومية، ولكن كان هناك أيضاً جريدة "الجمهورية" التي أنشأتها ثورة 23 يوليو وتتابع على رئاسة تحريرها صحافيون كبار، وأصبحت مدرسة مستقلة بذاتها تخرّج منها عدد كبير من نوابغ الصحافيين. ولا ننسى في هذا المقال مدرسة "روز اليوسف" العظيمة صاحبة التاريخ العريق في تخريج أنبغ الصحافيين المصريين، ليست المجلة فقط ولكن جريدة "روز اليوسف" اليومية التي أسسها الراحل عبد الله كمال وكانت إضافة حقيقية للدار، وهل يمكن أن ننسى "دار الهلال" التي تصدر مجلة "المصور" والتي رأس تحريرها عدد من كبار الصحافيين والمثقفين، بالإضافة إلى مجلة "الهلال" التي استطاع عدد من رؤساء التحرير الشباب الذين تولوا رئاسة تحريرها في السنوات الأخيرة تجديد شبابها الفكري. هذه لوحة خاطفة للصحافة القومية في عزّ ازدهارها في الستينات والتي كانت رائدة صحافة الوطن العربي كله.

ولكن مع مضيّ السنوات - وخصوصاً في عهد الرئيس السابق حسني مبارك- دخل الفساد بكل جرائمه دور الصحافة القومية، وأهدرت أموال أغنى المؤسسات الصحافية وهي "الأهرام" وتدهورت أحوال التحرير، حيث أصبح يعين رئيساً للتحرير عدد من الشخصيات الصحافية التي تفتقر إلى الكفاءة المهنية اللازمة. وواجهت المؤسسات الصحافية القومية أزمات مالية ضخمة، وتراكمت عليها ديون نقدية بملايين الجنيهات نتيجة الفساد أولاً وسوء الإدارة ثانياً وتدهور المستوى التحريري ثالثاً.

وها نحن اليوم في غمار معركة تجديد شباب الصحافة القومية المصرية، وهي معركة حقاً لأنها تتعلق بحسن اختيار رؤساء مجلس الإدارة ورؤساء التحرير بناء على معايير رفيعة.

هذه هي الخطوة الأولى الحاسمة. ولو تحدثت عن جريدة "الأهرام" كدراسة حالة case study بحكم علاقتي بها منذ عام 1968 تاريخ التحاقي كخبير استراتيجي منتدب بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ثم مديراً للمركز منذ عام 1975 حتى عام 1995 وبعد ذلك مستشاراً له- لقلت بحكم أنني عشت سنوات الازدهار وسنوات الهبوط أن "الأهرام اليوم" ابتدأ يسترد عافيته المؤسسية والصحافية - إن صح التعبير- وذلك في ظل رئيس لمجلس الإدارة استطاع أن يشن حرباً شاملة على الفساد في المؤسسة، ويسترد جزءاً كبيراً من ديونها المعدومة، ويدفع مئات الملايين من الجنيهات من ديونها، وأهم من ذلك تطبيق سياسة منهجية لترشيد الانفاق وفتح مجالات استثمار جديدة أمام المؤسسة.

ويرافق ذلك رئيس تحرير يتمتع بالكفاءة المهنية العالية التي جعلته يوفق في أن يعود إلى "الأهرام" ألقه القديم في الستينات، برفع المستوى التحريري واكتتاب عدد من كبار الكتاب والتركيز على الدور التنويري لـ"الاهرام". ولعل النموذج البارز لذلك المقالات الهامة الضافية التي تنشر للصديق المفكر اللبناني المرموق كريم مروة عن "رواد التنوير" والتي ستصبح حين ستجمع في كتاب مرجعاً مهماً للأجيال العربية الشابة من شأنه أن يشحذ ذاكرتهم التاريخية. ناهيك عن عودة صفحة مركز "الأهرام" للدراسات السياسية والاستراتيجية الذي أنشأه بخيال علمي رفيع الأستاذ محمد حسنين هيكل، والذي أصبح مع الزمن أهم مركز استراتيجي عربي، وخصوصاً حين أصدرنا فيه التقرير الاستراتيجي العربي منذ عام 1978 والذي أصبح أهم تقرير استراتيجي عربي وعالمي.

غير أن جهود مؤسسات الصحافة القومية في إصلاح هياكلها تحتاج إلى دعم من قبل الدولة، وربما كان تشكيل لجنة مشتركة من رؤساء مجالس المؤسسات القومية ونقابة الصحافيين وممثلين عن الحكومة هو السبيل الأمثل لإنهاض المؤسسات القومية من كبوتها، فهي تمثل الأمل في نهضة صحافية وطنية لا تخضع لأهواء رأس المال ولا تقع أسيرة الضغوط الخارجية.

باحث مصري



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة