الجمعه ٢٩ - ٣ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الأول ١٩, ٢٠١٤
المصدر: جريدة الحياة
أزمة العقل التقليدي (2)... تشريح العقل الإرهابي - السيد يسين
قررنا في مقالنا الماضي أن العقل التقليدي هو المقدمة الضرورية لنشأة العقل الإرهابي، ولا يمكن الكشف عن مكونات العقل الإرهابي إلا بتحديد آليات الخطاب الإسلامي المتطرف والمراوغ. والآلية الأولى هي الهروب من التاريخ إلى كلام مرسل عن أمجاد الحضارة الإسلامية في عصورها الزاهرة، والتي هي ليست محل أي خلاف، ثم كلام معاد عن أعداء الإسلام الذين ينبغي شرعاً قتالهم.

والآلية الثانية هي استخدام المشابهة التاريخية بطريقة ظاهرة الخطأ، وذلك بتأكيد أن «الصحيفة» التي كتبت في العهد النبوي ووصفت بأنها «دستور المدينة» هي دستور حقاً بالمعنى الحديث للمفهوم، وأن الإسلام بذلك سبق تاريخياً كل الدساتير الحديثة.

والسؤال هنا هل تتضمن «الصحيفة» حقاً - كأي دستور حقيقي- آلية محددة لانتقال السلطة إضافة إلى التحديد الدقيق للسلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، ترى ما هو سر الصراع الدموي على السلطة طوال أغلب مراحل التاريخ الإسلامي، وما هو تفسير الانقلابات السياسية المتتابعة التي اعتمدت على استخدام القوة والعنف والاغتيال؟ وهل صحيح أن التعددية التي سادت في الدولة العثمانية وقامت على نظام «الملل» تتشابه مع التعددية السائدة في المجتمع الحديث؟

والآلية الثالثة: وهي أخطر آلياته على وجه الإطلاق، هي استخدام الفتوى في تكفير الخصوم الفكريين، سواء صدرت من مفتٍ محترف، أو من مفتٍ هاوٍ يصدر الفتاوى على هواه. ومثالها الفتوى التي سبق أن أصدرها محمد عمارة ومفادها أن العلمانيين المسلمين الأتقياء الذين لا يؤمنون بمنطلقات الإسلام السياسي هم مشركون وجاهلون ووثنيون.

ومن هنا يمكن القول أن السر الحقيقي في الفشل السياسي لـ «الإخوان المسلمين» في حكم مصر ليس مجرد عجز الرئيس عن إدارة البلاد، كما يفعل أي رجل دولة حقيقي، ولا فشل الحكومة «الإخوانية» في حل المشكلات الجسيمة التي تواجه المجتمع، ولكن هو في العقل التقليدي العاجز عن مواجهة مشكلات الواقع بطريقة علمية. ومن ثم يمكن القول على سبيل القطع أن تيار الإسلام السياسي في العالم العربي بعد صعود كل من جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وحزب «النهضة» في تونس إلى السلطة، يمر الآن بأخطر اختبار تاريخي في حياته الممتدة.

وترجع خطورة هذا الاختبار التاريخي إلى أن جماعة «الإخوان المسلمين» وأشباهها في مختلف البلاد العربية، لم يتح لها أن تتولى الحكم مباشرة حتى تنفذ مبادئها المعلنة في السياسة والاقتصاد والاجتماع. على العكس من ذلك واجهت جماعة «الإخوان» – بحكم لجوئها الى العنف بواسطة الجهاز السري الذي أنشأه الشيخ حسن البنا لردع خصوم الجماعة – مشكلات كبرى من قبل النظم السياسية المتتابعة في مصر.

وإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد بالضرورة للعقل الإرهابي الذي يدفع الشخص الى ارتكاب الأفعال الإرهابية على أساس أنها نوع من «الجهاد» في سبيل الله، فإن هذا العقل التقليدي لا يمكن فهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلى أصل واحد هو «الأصولية». ولا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة، ونعني العودة إلى المبادئ الأساسية للدين التي تتسم بالنقاء بعيداً من ثرثرة الهوامش في عصور الانحطاط، والتهافت الفكري والجمود المذهبي للحواشي التي كتبت شرحاً للأصول، وإنما المعنى المقصود هنا هو الجمود العقائدي والتزمت الفكري.

وقد أبرز الكاتب المغربي المعروف علي أومليل في بحث له بعنوان «حوار الثقافات: العوائق والآفاق»، هذه المعاني السلبية للأصولية. (نشر البحث في أعمال ندوة حوار الثقافات: هل هو ممكن؟ التي عقدت في الرباط في كانون الثاني / يناير 2003). فقد استطاع أومليل ببراعة ومن خلال تتبعه التاريخي للمواجهة التي تمت بين العالم العربي والعالم الأوروبي في بداية النهضة العربية الأولى، أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن تفوق العسكرية الأوروبية يقف وراءه تفوق في تنظيم الاقتصاد والمجتمع والدولة، وأيضاً تفوق علمي وتكنولوجي. وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيم ومبادئ كالتربية على الحرية والمساواة، وحق الشعب في اختيار حكامه، وحرية التعبير والصحافة، وسيادة القانون والمساواة أمامه. غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي تبلور وعي مزدوج تجاه الغرب، فهناك إعجاب بمظاهر تقدمه، ولكن هناك أيضاً الغرب الاستعماري المزدوج المعايير. فهو يضمن الحرية لمواطنيه ويحرمها على الشعوب التي يستعبدها.

وقد كان أومليل موفقاً حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة، والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة. وذلك على أساس أن فشل الدولة السلطوية في تحقيق تنميتها المزعومة ينتج عنه نوعان من رد الفعل: الأول ذهب إلى أن لا تنمية حقيقية بغير تنمية سياسية ديموقراطية أساسها حقوق الإنسان، والثاني هو رفض الحداثة بما فيها الحداثة السياسية والتي أساسها الديموقراطية. وهذا هو موقف الإسلام السياسي الذي تمثله الأصولية. ويقول أومليل في شرح هذا الاتجاه أنه «ما دامت التنمية - نظرياً- هي طريق إلى الحداثة، وما دامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع، فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معاً!».

ويضيف أن فكر الأصوليين دار خارج إشكالية الحداثة. ذلك لأن التفكير في التنمية هو تفكير في الزمان والتاريخ، أما فكر الأصوليين فهو فكر لا زماني ولا تاريخي، لأنه تفكير في نص مقدس تفكيراً خارج الزمان. والأصولي يرفض الحداثة - كما يقرر أومليل - لأنها تغريب بمعنيين: أولاً لأنها تغريب بالإسلام إذ يصبح غريباً بين أهله، وثانياً: لأنها اقتداء بالغرب.

والإسلام، بالنسبة للفكر الأصولي المتشدد، يرفض أي حوار بين الحضارات، بل إنه ينضم الى الأصوات العنصرية في الغرب التي تدعو الى الصراع بين الحضارات. والإسلام، وفقاً لهذا الفكر الأصولي أيضاً، ينبغي أن يسود ليس بالدعوة فحسب، وإنما بالجهاد أيضاً والذي يعني فرض فكرة الدين بالعنف والإرهاب. وهكذا تتبين الصلات العضوية الوثيقة بين العقل التقليدي الأصولي والعقل الإرهابي.

وإذا قرأنا النصوص التي أنتجها الأصوليون المتشددون في الجماعات الإسلامية المختلفة لأدركنا أن عنف الخطاب لا يعادله عندهم إلا عنف الإرهاب.

ولعل الاهتمام العالمي المتزايد بالتطرف الإيديولوجي والإرهاب الإسلامي يجد مبرره في أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، حينما وجّه تنظيم «القاعدة» ضربات إرهابية مؤثرة لمراكز القوة الأميركية، إضافة إلى أحداث إرهابية أخرى وقعت في إسبانيا وإنكلترا، إضافة إلى الأحداث الإرهابية التي وجهت ضد المملكة العربية السعودية والمغرب والجزائر، وغيرها من الدول.

ومعنى ذلك أن الإرهاب والتطرف الإسلامي قد احتل النسبة الأكبر من الإرهاب العالمي، بعد أن خلت الساحة تقريباً من الإرهاب الألماني والإيطالي والياباني، الذي ساد من خلال منظمات إرهابية معروفة خلال عقدي الستينات والسبعينات.

ولعل السؤال الرئيسي الذي ينبغي إثارته الآن هو كيف نواجه التطرف؟ هناك إجابة تقليدية تتمثل في استخدام الوسائل الأمنية والأدوات السياسية. وهو منهج في تقديرنا عقيم، لأن ليس بالأمن وحده يجابه الإرهاب. وهناك إجابة أخرى نتبناها وتتمثل في منهج السياسة الثقافية الذي يقوم على أساس تحليل ثقافي عميق لظواهر التطرف والإرهاب.

ولو أردنا أن نعدد مفردات المنهج الأمني والسياسي- وهو منهج ضروري ولكنه ليس كافياً- لوجدناها تتمثل في عدد من الأساليب، من بينها سياسة تدمير شبكات التطرف ومواجهة الإرهاب من خلال أجهزة الأمن والقانون، وإثارة الانقسامات بين مختلف الجماعات الإرهابية تحت شعار «فرق تسد»، وعزل العناصر المتطرفة، وإعطاء المجال للعناصر المعتدلة حتى يسود خطابها في المجتمع، مع التركيز على الوسطية. ولعل أبرز هذه المفردات هو المواجهة العنيفة الحاسمة مع العناصر المتطرفة والإرهابية لاستئصالها من المجتمع.

ويبقى بعد ذلك أن نناقش منهج السياسة الثقافية في مواجهة الإرهاب.

* كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة