الجمعه ١٩ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: كانون ثاني ٢٥, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
الثورة المصرية و«الربيع العربي»: بداية التحرر - وحيد عبد المجيد
لم تتفتح بعد زهور في مصر التي تحل الذكرى الرابعة لثورتها، ولا في غيرها من بلدان استُخدم تعبير «الربيع» للدلالة على ثوراتها أو انتفاضاتها أو محاولاتها للتغيير. وما عدا تونس، التي أورق فيها قليل من الأشجار، تبدو الأجواء مكفهرة والأوضاع مضطربة. وتحل الذكرى الرابعة لثورة 25 يناير، التي أثارت إلهام الكثير في العالم حينذاك، في ظل هذه الأجواء.

وليست هذه حالة فريدة في تاريخ الثورات الشعبية منذ الثورة الفرنسية في 1789، والتي تُعد ثورات 2010 - 2011 العربية جيلاً جديداً سادساً بين أجيالها (أو موجاتها). والمقصود، الثورات العفوية التي تحدث من دون سابق تخطيط، ولا يوجهها تنظيم معين أو انتماء سياسي وأيديولوجي محدد، ولا علاقة لها بالانقلابات العسكرية. إنها ثورات تسبقها غالباً احتجاجات متفاوتة تتراكم بالتوازي مع توطن الغضب في طبقات عميقة اجتماعية وسياسية من وجدان قطاعات أساسية في هذا الشعب أو ذاك.

وقد أجرى فرانسيس فوكوياما في كتابه الأخير «النظام السياسي والاضمحلال السياسي: من الثورة الصناعية إلى العولمة الديموقراطية» مقارنة بين ثورات 2011 - 2012 العربية، وثورات 1848 الأوروبية، ولاحظ أوجه شبه بينها. غير أن ما بين هذين الجيلين (الثاني والسادس) ليس إلا قواسم مشتركة بين مختلف أجيال الثورات الشعبية، التي تُعد جزءاً من حركة تاريخ تتقدم في مسارات متعرجة تنطوي على خطوات إلى الأمام وأخرى إلى الوراء.

ولذلك تندرج ثورات «الربيع» في سياق حركة التاريخ نحو التحرر من الطغيان والظلم، مثل سابقاتها في معظم مناطق العالم بدءاً بأوروبا، على رغم أنها نشبت في منطقة كان معظم دارسيها يعتبرونها حتى وقت قريب «استثناء» من هذا التاريخ.

وارتبط ذلك الاعتقاد بتأخر الانطلاق نحو هذا التحرر عربياً. غير أنه ليست هناك علاقة بين هذا التأخر والأمد الطويل الذي سيستغرقه إكمال عملية التحرر بما تنطوي عليه من منظومات قيمية، وليس فقط إجراءات ديموقراطية. فالتغير في هذه المنظومات، وما يرتبط بها من ثقافة مجتمعية، يحدث تدريجاً. وكانت هذه هي الحال في مختلف أجيال الثورات السابقة، التي لم يكتمل هذا التغير بعد في جيلها السابق (الخامس)، والمعروف بـ «الثورات الملونة» منتصف العقد الماضي.

فعندما يكون مسار التطور نحو التحرر مضطرباً، لا بد أن يطول. وهذه حال المسار الثوري بطابعه. وبخلاف المسار الإصلاحي، فالثورة تمثل الملجأ الأخير بعد غلق منافذ الإصلاح وقنواته كافة. ولذلك فهي ليست الطريق الطبيعية، بل الاستثنائية، نحو التحرر والتغيير. فالفعل الثوري اضطرار، وليس اختياراً.

لذلك لا معنى ولا قيمة للمعركة التي يخوضها بعض أنصار القوى المضادة لثورات التحرر سعياً إلى نفي كونها ثورات، وتسخيف وصفها بأنها «ربيع». فالثورة ليست عملاً عظيماً بذاتها، وإلا ما كانت فعلاً اضطرارياً استثنائياً لا يحدث إلا حين توصد أبواب الإصلاح تماماً.

ولو أن الأبواب مفتوحة، ما تداعت الاحتجاجات وتحولت ثوراتٍ بما تنطوي عليه من اضطراب وقلاقل وانفلات الصراع في أشكاله المختلفة.

وهذا هو ما نبَّه إليه في شكل غير مباشر الفيلسوف الإنكليزي جون لوك مبكراً للغاية. ففي «رسالة عن التسامح» المنشورة عام 1689، تطرق إلى ارتباط السلام والاستقرار بالعدل، لأن الناس قد لا يتحملون الظلم طويلاً. ونقتبس منه: «قد لا يبقى كثير من الناس صامتين بينما الحاكم يُلحق الضرر بالسلام في المجتمع، ويحوّل كل شيء فيه صحراء قاحلة مقفرة. فهناك طريقان دائماً هما العدل والقوة. ومن طبائع الأمور أن أحد الطريقين يبدأ حيث ينتهي الآخر».

وقصد لوك بالقوة، هنا، اللجوء إلى الثورة لما تنطوي عليه من عنف يصعب تجنبه مهما كان الطابع السلمي غالباً فيها، وبخاصة مع وجود قوى مضادة لها تسعى غالباً إلى تأجيج العنف سعياً إلى نزع شرعيتها الأخلاقية أو إضعافها.

غير أن أهم ما في هذه الثورات أنها تفتح الطرق التي ظلت موصدة أمام التحرر: تحرر الإنسان من الخوف، وتحرير عقله من الأوصاد التي تكبله.

وإذا كانت الصورة العامة في بلدان الثورات العربية لا تدل على ذلك، فلأن الطريق الذي فتحته إلى التحرر ما زال طويلاً، والهزات الارتدادية التي تتعرض لها قوية.

وإذ يُعد الخوف من السلطة وبطشها أهم كوابح التحرر، فالتحرر بدأ منه وبخاصة في أوساط الشباب الذين يمثلون الغالبية في البلدان العربية. لكن تفاقم الاضطراب وشيوع العنف وتهديد الإرهاب يبطئ المسار التحرري، لأنه يؤدي إلى خوف موقت من الحرية.

وليس غريباً، والحال هكذا، أن يتراجع المــسار التحرري، ويبدو كما لو أنه انتهى. غير أن هذا الاعتقاد يرتبط بنظرة سكونية (استاتيكية) للتاريخ، الذي يحفل بخبرات تفيد بأن مسار التحرر طويل ومتعرج ومتناقض.

لذلك لا تفيد الأحكام المطلقة في فهم هذا المسار راهناً، ولا تستطيع الذهنية الأحــادية التي لا ترى إلا الأبيض والأسود مقاربته. فهذا مسار رمادي وفق ما فطن إليه كارل ماركس في إحدى قراءاته التـــحليلية التي تخلى فيها عن هذه الذهنية، حين تناول تعثر الثورة الفرنســـية بعد فشل موجتها الاجتماعية الكبرى عام 1848، والتي تزامنـــت مع أكثر من عـــشر ثورات أوروبية آنذاك. ففي كتابه الذي ما زال مفيداً في فهم مسار الثورات العربية وبخاصة المصرية، «الثامن عشر من برومير: لويـــس بونابرت»، كتب أنه «لو أن حقبة في التاريخ الحديث طليت بلون رمادي، لكانت هي هذه الحقبة بحذافيرها».

كتب ماركس كتابه بعد نصف قرن على ثورة 1789، وفي ظل صدمته الناجمة عن تعثر ثورة 1848 وانهيار الجمهورية الثانية بعد 4 سنوات فقط وتنصيب لويس بونابرت إمبراطوراً. ولكنه لم يقع في فخ الاعتقاد بأن المسار التحرري انتهى. وعلى رغم قتامة الوضع، فقد رآه رمادياً.

وقد كان رمادياً فعلاً في فرنسا، كما هو الآن في مصر وبلدان عربية بدأ فيها الجيل السادس للثورات، والذي يبدو أنه لن يقتصر عليها ولن يبقى محصوراً في منطقتها. وقد تكون انتفاضات هونغ كونغ وبوركينا فاسو وهاييتي في النصف الثاني من العام الماضي بداية امتداد هذا الجيل من الثورات إلى مناطق عدة.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة