السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيار ٢٤, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
تَدْمُر وأهل الكهف - عمر قدور
في نهاية التسعينات، تجمهر عدد من المسافرين في محطة حمص للحافلات، كانوا ينظرون بدهشة إلى ثلة غريبة السحنات والملابس، أفرادها يطرقون رؤوسهم إلى الأرض خائفين. كانت سيارة المخابرات قد أتت بتلك المجموعة من سجن تدمر وأوصلتها إلى باب المحطة، وكان أفراد المجموعة يرتدون الملابس ذاتها التي اعتقلوا وهم يرتدونها قبل نحو عقدين، وجميع أفرادها لم يُمنحوا حق الزيارة في السجن ليطلعوا من أهاليهم على ما يحدث خارجاً. تلك كانت مجموعة من معتقلي «الإخوان»، أما خفض الرؤوس بذلّ مشوب بالخوف فأمر يعرفه كل المعتقلين، إذ تنص تقاليد الإذلال على عدم السماح برفع الرأس في مواجهة السجان وإلا نال «المخالف» عقوبة شديدة.

ربما تكرر الأمر ذاته مقلوباً لدى سيطرة «داعش» على سجن تدمر، فهناك من السجناء من اعتقل عندما لم يكن من وجود لـ «داعش»، وسيُفاجأ بلا شك بأولئك الملثّمين الآتين من عصر يجهله، وسيُفاجأ أيضاً بالتطورات العامة في البلاد، مثلنا نحن لو نمنا نومة عميقة طوال السنوات الأربع الأخيرة وأفقنا الآن. لكننا، إزاء حالة المعتقل الذي سيهبط على زنزانته أولئك الملثّمون، لا ندري حقاً أيّ الطرفين أشبه بأهل الكهف، وأيّاً منهما يتداول عملة قديمة باطلة!

لكن المفارقات الزمنية قريبة العهد لا تكتمل من دون المفارقة الكبرى التي أسسها نظام الأسد، المفارقة التي تجعل من اثنين من أهم المعالم التاريخية في سورية مقرونين بأفظع سجنين، هما سجن تدمر وسجن صيدنايا. العامل اللوجيستي، حيث تقع تدمر وسط بادية مكشوفة وتقع صيدنايا وسط جبال محصنة، لا يكفي لتبرير ذلك، فهناك مناطق أخرى في البادية أكثر عزلة، وهناك جبال محصنة لا تحمل رمزية تاريخية يمكن اختيارها كمكان لاحتواء أسوأ بشاعات النظام. من تدمر يكاد السوريون لا يعرفون سوى سجنها، وربما بنسبة أقل يعرفون تفاصيل المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام في حق السجناء العُزّل في حزيران (يونيو) 1980، بقيادة مباشرة من صهر رفعت الأسد. ومن صيدنايا التي لم تسمع غالبية السوريين باحتضانها أحد أهم الأديرة في العالم ولا حتى معنى اسمها الآرامي «سيدتنا»، يعرف السوريون منها السجن الذي ارتكبت فيه مجزرة، أيضاً في حق المعتقلين الإسلاميين عام 2008، وهذه المرة كانت كما تبين من التسجيلات المسرّبة بإشراف وحضور شخصيين من ماهر الأسد.

بالطبع، السيّاح الغربيون الذين يأتون لزيارة المدينتين لم يكونوا على دراية أو اكتراث بما يحدث في سجنيهما، وقد يكون بعضهم الآن في طليعة المتألمين بسبب سيطرة «داعش» على تدمر، بينما يقع موضوع آثارها في أخذ ورد بين سوريين تَرجح كفة الآثار لدى قسم منهم وتَرجح كفة المعتقل لدى قسم آخر. هنا تتجلى واحدة من أخطر المفارقات التي أوجدها النظام بين السوريين والعالم، تماماً في جوار السيّاح الذين يلتقطون صوراً تذكارية لهم ثمة سوريون يموتون يومياً تحت التعذيب، أو يموتون جماعياً بفعل المجازر. هكذا تنقسم تدمر، أو صيدنايا، بين العمق الحضاري المُقدَّم إلى الخارج، والأعماق المظلمة المُعدَّة للداخل. لقد كُتب الكثير عن مفارقة أن يُسمي النظام واحداً من أقذر أجهزته الأمنية باسم «فرع فلسطين»، ولئن كانت تلك المفارقة تفضح أكذوبة الممانعة فإن الاستخدام المزدوج لأشهر المعالم الأثرية يدلل على بشاعة مفادها أن تاريخكم البعيد فرجة للآخرين وسجن قاتل لكم.

كان حافظ الأسد، كما يصوّره مادحوه، ملمّاً بالتاريخ وعاشقاً له. حزب البعث أيضاً بنى أيديولوجيته على مرحلة من التاريخ. في المعنى البعيد، عملت «التربية» البعثية والأسدية على جعل التاريخ سجناً فكرياً لعموم السوريين، لأن هذا وحده كفيل بعزلهم عن التطورات الواقعية والفكرية في العالم. الصورة - المثال الذي كان يبتغيه الأسد، واستورد من أجله نماذج من كوريا الشمالية ورومانيا تشاوشيسكو، جعل السوريين أشبه بأهل الكهف، فتحت كذبة استعادة التاريخ المشرق كان ثمة سعي حثيث لإيداع هذه الكتلة البشرية في ذمة التاريخ.

باختيار تدمر وصيدنايا مقرّين لأعتى معسكرات الاعتقال تكون رؤية الأسد للتاريخ قد تجسدت فعلاً، بل إن منظر أولئك التعساء في محطة حافلات حمص لا يختلف من حيث الجوهر عن خروج بعض السوريين إلى الفضاء العام، أي ذلك الخروج المقرون بعدّة فكرية وإمكانات متواضعة تم تجاوزها عالمياً. أيضاً، لن يكون مفهوماً اليوم من الغرب قلة اكتراث شريحة واسعة من السوريين بمصير آثار تدمر، وقد تبدو هذه الشريحة غريبة الأطوار أو قاصرة فكرياً إذا لم يؤخذ في الاعتبار أنها عاشت السجن المجاور لذلك المتحف.

في ما يخص تَدْمر، تحديداً الآن، لا يظهر التاريخ في موقعه الطبيعي، فهو إما عرضة للتدمير النهائي بأيدي «داعش»، أو البقاء سجناً على المستويين الرمزي والجسدي. يمكن القول أن السوريين في حاجة ماسة إلى الشفاء من تدمر ومن صيدنايا، لكن الشفاء من التاريخ البعيد والسجن الحالي لن تحققه أيديولوجيا آتية من 1400 سنة خلت، ولن يحققه في الطرف المقابل أصحاب مظلوميات ترجع إلى الحقبة نفسها. على الصعيد الرمزي، لن يُشفى السوريون من تدمر إلا عندما يتحول سجنها متحفاً ينتمي إلى العهود الغابرة أسوة بآثارها الأخرى، أي بالسير عكس الأيديولوجيات التي تحول المتحف إلى سجن معاصر.

ربما تكون المفارقة الأصغر في أن الإسلاميين هم أكثر من اختبر بشاعة سجني تدمر وصيدنايا قبل الثورة، لا بسبب المجازر التي تعرضوا لها في السجنين فحسب، إنما أيضاً بسبب سياسة التعذيب المفرط والعزل التام. المفارقة الأخرى المتصلة بها هي تلك المقولات الرائجة عن تعمد النظام الإفراج عن الإسلاميين مع مستهل الثورة لاصطناع خصم متطرف، كأن أصحابها يضمرون تأييداً لاعتقالهم خارج أي محاكمة عادلة. فإذا كان هناك أمل ضئيل بمعالجة الأصولية من خلال الاحتكاك بالواقع والآخر، فسياسة العزل التام، حتى ضمن السجن نفسه، تتكفّل القضاء عليه.

مرة أخرى، وفي صياغة معاصرة لسيرة أهل الكهف، في منتصف التسعينات سُمح لبعض سجناء «الإخوان» بتلقي زيارات الأهل للمرة الأولى بعد عقد ونصف العقد. أحد السجناء خاطب ابنته الآتية لزيارته باسم زوجته. كانت الابنة صارت في عُمر زوجته عندما اعتقل.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة