الأحد ١٩ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: حزيران ٢١, ٢٠١٥
المصدر: جريدة الحياة
خضوع الفقيه للسلطان... وقبوله تسييس الدين! - خالد الحروب
«ما استل سيف في الإسلام مثل ما استل على الإمامة»، كما قال الشهرستاني، وكما يقتبس وجيه كوثراني في كتابه المُتجدد الأهمية «الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين، العثمانية والصفوية»، الذي صدرت حديثاً طبعته الرابعة. ويمكن ببساطة افتكاك مقولة الشهرستاني من سياقها الثقافي والديني الخاص و «كوننتها» بإعادة صوغها كالتالي «ما استل سيف في تاريخ البشر مثل ما استل على الحكم». أُس مسألة السياسة واجتماع البشر إذاً، وجذرها المُتحفز للتفجر يكمنان في «السلطة»... والسلطان. ليس هذا حصراً في فضاءات العرب والمسلمين بل هو ديدن البشرية على اختلاف أصول سياساتها ومنابت شعوبها وأديانهم وثقافاتهم. ظلت السلطة هي المغرية الدامية والمُدمية، من أجلها وفي سبيل السيطرة عليها قامت حروب وأبيدت جماعات وأهلكت دول وأمصار. إذا تم الوصول إلى صيغة ما، يمكن عبرها إدارة الصراع سلمياً على السلطة، عندها تنحسر الصراعات وينخفض منسوب الدم. وإن لم يتم الوصول إلى تلك الصيغة، فإن دورة العنف والدم لن تهدأ إلا بعد أن تسلم القياد لدورة عنف أخرى لا تقل عنها دموية. أي تأمل في متتاليات العنف والصراع والموت التي حولنا، وفي أي من الاتجاهات الأربعة، يقدم لنا الشاهد والدليل المرير على ديمومة «قانون» الصراع على السلطة ونواتجه.

وتقدم لنا قصة السعي المحموم لـ «السلطان»، أياً كان زمانه ومكانه ودينه، لإدامة السيطرة والتحكم بالسلطة، فصولاً مثيرة. بيد أن جوهر تلك الفصول مكرر ويدور حول خلاصة واحدة، ظل المهمومون بالسياسة من ثيوسيدس إلى الماوردي وصولاً إلى ماكيافيلي وهوبز يكررون الوصول إليها: كل الوسائل مشروعة في سبيل السلطة. وفي قلب تلك القصة يقع الفصل الأكثر إثارة وهو أن السلطان، وفي حقب وقرون طويلة وحتى يومنا هذا، لم يجد وسيلة أكثر نفاذاً وفعالية من الدين لتوظيفه والاستقواء به للاستحواذ على السلطة والتأبد فيها. في المسيحية قبل الإسلام، وفي كل ديانات وسياسات العالم، انهمك السلطان في السيطرة على الدين والمُعتقد ليقول لعامة الناس أنه حامي ذلك المُعتقد، وأنه الممثل الشرعي له، وأن طاعته والولاء له هما من صميم الدين وأركانه، واشتغل على تحويل وتحوير وتأويل المقولات الدينية كي تعزز من شرعيته.

في مقدمة الكتاب يرصد كوثراني، برصانة المؤرخ الرصين، والمُنحاز إلى التجربة التاريخية على حساب المقولات النظرية المطلقة، جانباً من خلافات العرب السفسطائية حول الخلافة والسياسة، إبان حقبة الاستعمار. وينقل ما كان قد قاله السيد محسن الأمين في عهد الانتداب الفرنسي للبنان وسورية: «بقينا نختلف على من هو خليفتنا حتى أضحى المندوب السامي الفرنسي خليفتنا»، بما يعكس جزءاً من سجالات فقهية سنية وشيعية حول الخلافة والإمامة آنذاك. بعد ما يقرب من قرن على كلمات الأمين المريرة تلك، ما تزال تُدهشنا فاعلية مقولته وتكرار انطباقها المذهل: يختلف ناس البيت في ما بينهم ويقتتلون على السلطة بمسوغات الدين حتى آخر نزف من دمائهم، ليأتي الأجنبي ليفصل بينهم بوجه ويحكمهم بوجوه. وهي أيضاً السردية السوداء للانتكاسة الطائفية الفظيعة التي تنزلق إليها منطقتنا اليوم، في هذا الردح البائس من الزمن إذ تعيد تجريب ما جُرب: تعريف وحشر الجماعات الوطنية والناس والشعوب طبقاً لهوياتهم الدينية والإثنية والطائفية، ثم زجهم في حرب دينية طاحنة لا مُنتصر فيها، يأتي بعدها الأجنبي حكماً وفاصلاً بين المتحاربين حتى الموت. أليست واشنطن اليوم والعواصم الاوروبية هي الحكم المنشود الذي يسعى إليه العرب والإيرانيون، إما لحشد تأييده في صفهم، أو للقبول بحكمه؟

لكن يبقى جوهر المجادلة التي يقررها كوثراني في هذا الكتاب ويعمقها في المقدمات المتوالية لكتابه هو إعادة الاعتبار لسياقات التطور التاريخي عند احتدام الجدل الفكري والسجالي حول «السياسة والدين» في الإسلام (السني والشيعي) على السواء، بعيداً عن المناطحة النظرية التجريدية. فالسياقات التاريخية، الذاتية والمقارنة، هي التي تحفل بالاغتناء وتكامل الصورة، وتكشف هشاشة التفلسف النظري الاعتذاري من ناحية، والانتقائية التاريخانية من ناحية ثانية. هناك، أي في التجربة التاريخية وتنوعاتها وتفرعاتها وأزمنتها وشخوصها نشهد صراعات «السلطان» و «الفقيه»، ويمكن لنا أن نخلص إلى نتائج تتمتع بصدقية موضوعية. هذا طبعاً يناقض وينقض المنهج النصي الذي تحالف على ترويجه الاستشراق الكلاسيكي، والمنظور الحركي الإسلاموي ومثقفوه الذين وقعوا في أسر النص وتمترسوا به، وظنوه خارقاً للزمن والمكان، وطرحوا عنه تجربة المسلمين الغنية في قرون طويلة وألقوها جانباً.

المنهج التاريخي المتعمق، وكما نراه متجسداً في «سلطان» و «فقيه» كوثراني هنا، يقودنا إلى خلاصات هامة جداً. يتقدمها تقويض الجوهرانية (السياسية الدينية) التي نصبها المستشرقون وحلفاؤهم من الإسلامويين حول الإسلام، بالزعم أنه جوهر ثابت لا يتغير ولا يتفاعل مع السياقات التاريخية والسياسية والاقتصادية التي تمور حوله. وجانب من الجوهرانية تلك، الادعاء أن المسجد والسياسة في الإسلام متحدان متداخلان، ليس ثمة فصل ممكن بينهما كما الحالة في السياق الغربي بين الكنيسة والسياسة. يقول كوثراني أن المستشرقين روجوا هذه الفكرة طويلاً، ثم سرعان ما التقطها إسلاميو القرن العشرين، ومعهم تحولت إلى ما يشبه القناعة العامة، أو «البراديغم». وهكذا، وفي قلب التجربة الاوروبية، وبعد قرون من الحروب الدينية الدموية التي كان جذرها تداخل الدين والسياسة وليس انفصالهما، فإن الحل الناجع الذي آلت إليه تلك التجربة وهو الفصل بين السلطتين يصبح حلاً خاصاً بالتجربة الاوروبية فقط. أي لا يمكن تطبيقه على الحالة الإسلامية لأن السلطتين هناك متداخلتان ولا يمكن الفصل بينهما، وعليه فإن العلمانية التي كانت هي الحل للمذابح الاوروبية لا تصلح للمسلمين ولا للإسلام. هذه هي النتيجة المُختلة معرفياً وتاريخياً والمدمرة سياسياً والتي آل إليها التنظير الديني المتسيس في اللحظة العربية والإسلامية الراهنة.

لنقض تلك المقولات الفوقية التي تقر بانفصال واضح بين الدين والسياسة في التجربة الغربية، لكن تفرض وجود توحيد قسري للمفهومين في التجربة الإسلامية، يغوص كوثراني في تواريخ الدولة العثمانية وتواريخ الدولة الصفوية القاجارية. يتابع توترات وعلاقات وتنافسات التسيس والتدين في هذه السياقات الإسلامية ليستخرج من قلب التجربة، لا من تأويلات النص المفتوح على التفسيرات التي لا تنتهي، انفصال السلطان عن الفقيه في حالتي التسيس العريض: السني والشيعي. ما بدا ويبدو توحيداً للمجالين المذكورين لا يعكس في الواقع التاريخي سوى السيطرة الفعلية للسلطان على الفقيه، وتوظيف الأول للثاني. في الحقب الأعرض من تاريخ التسيس الإسلامي، ومباشرة بعد مرحلة الخلفاء الراشدين (وهي المرحلة ذاتها التي شهدت بداية بروز عوارض ما ظهر بعدها) سقط الفقيه في براثن السلطان. ونعلم جميعاً أن مدارس الفقه وعلم الكلام وأطروحات المناطقة (وسجالات الجبرية والقدرية وخلق القرآن) وكثيراً غيرها، لم تكن إلا استجابات التفسير الديني لمتطلبات المايسترو السياسي المُسيطر في هذا الزمن أو ذاك، أي السلطان.

يلاحق كوثراني تلك الاستجابات وتناغمها مع السلطان، أو استخدام السلطان لها، في الحقب التاريخية المتنوعة والخاصة بالعثمانيين والصفويين: من المرحلة البويهية والسلجوقية، وصولاً إلى نهوض الدولة التركية الحديثة وإيران الحديثة. من الماوردي ونظام الملك إلى محمد حسين النائيني والإمام الخميني، لا يني الاستنتاج التاريخي يتثبت ويتحقق، وهو سيادة السلطان على الفقيه، وانفصالهما الفعلي عن بعض. بيد أن التوظيف الإدماجي من قبل الأول للثاني أبقى وما زال يبقي على الوعي الزائف المُشتهر بتوحد السياسة مع الدين في الإسلام، وهو الوعي الذي لا يخدم سوى الاستبداد ودكتاتورياته، ودوماً باسم الدين والدفاع عنه.


* كاتب وأكاديمي عربي


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة