الأحد ١٩ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٢٢, ٢٠١٥
المصدر: ملحق النهار الثقافي
الإرهاب يدين الجميع - علي حرب
عندما أنهيتُ مقالتي عن سياسة العالم وأحواله في العدد السابق من "الملحق"، بقولي: "سوف يعمّ الإرهاب العالم"، خشيتُ أن أكون قد بالغتُ في التوصيف والتشخيص. ثمّ أتت التفجيرات الصاعقة التي هزّت لبنان وفرنسا والعالم، سواء في ضاحية بيروت، أو في فرنسا وضاحيتها، لكي تشهد على أن ما قيل كان في محله من حيث قراءة المعطيات واستباق التطورات. ما حصل لم تعد تفي بوصفه الكلمات. فلسنا أمام أيلول لبناني، ولا أمام أيلول فرنسي، وخصوصاً أن العبارة قد استُخدمت لوصف التفجيرات التي استهدفت باريس في كانون الثاني المنصرم.

إننا نحتاج الى مصطلحات جديدة، لأن الإرهاب يدخل في طور جديد. لم يعد مجرّد خلايا نائمة لا وجه لها ولا اسم أو لا مكان ولا مسرح. إنما أصبح له أرضه ودولته، وله مشروعه ومؤسساته وشبكاته. وهو لا ينفكّ يطوّر أساليبه ويتفنّن في أعمال القتل وسفك الدماء بالحرق والذبح واستخدام العبوات المفخخة أو الأحزمة الناسفة لتفجير الأجساد وتحويلها الى أشلاء.
لذا، فما حصل في فرنسا هو "حرب" حقيقية كما وصفها الرئيس فرنسوا هولاند. وهي تشهد على فشل التحالف الدولي في محاربة الإرهاب الذي تتعاظم قدراته ويزداد انتشاراً، بعد كل غزوة بربرية، وسط ذهول العالم وصدمته. هذا، إلا إذا كانت الدول الكبيرة والقوى الفاعلة تعلن شيئاً وتفعل عكسه. عندها تكون الطامة الكبرى. في كل حال، ما يحصل منذ سنوات يدين الجميع، إذ لكلٍّ ضلعه في النشاط الإرهابي. والكل يحصد ما يزرع، الساكت كما العاجز، والمتورط كما المتواطئ. أما الأكذوبة فهي أن مصنّع الإرهاب ومصدّره هو الذي يدّعي محاربته.

ضحايا الذاكرة
في ما يخصّ لبنان، أتجاوز اللاعبين على المسرح من أصحاب الدعوات والمشاريع؛ كما أتجاوز الذين يقفون في هذا الخندق الإيديولوجي أو في ذلك المعسكر السياسي، لكي يتمترسوا وراء عقائدهم البربرية ونصوصهم الجهنمية وهوياتهم المريضة، لكي أتحدث عن الشريحة الصامتة من اللبنانيين التي لا يقف أفرادها في الصف، وسط القطيع، لكي يهددوا ويتوعدوا أعداءهم في الدين أو في السياسة. أتحدث إذاً، عمّن تجمعهم الشراكة في الوطن والإنسانية، كما تجمعهم هموم الحياة ومشاغلها، أو أفراحها ومباهجها، في الحي والسوق أو في المدرسة والجامعة أو الإدارة والشركة، فضلاً عن النادي والملعب أو المقهى والملهى، وسواها من أماكن العيش المشترك ومؤسساته وفضاءاته.

هؤلاء هم الذين تدور عليهم اللعبة، بقدر ما هم ضحايا العصبيات الفاشية والثارات التاريخية، التي يحاول مثيروها ومطلقو شعاراتها فبركة أعداء، بنبش الذاكرة الموتورة وتوظيف التراث بصورة سلبية عدوانية، تثمر ثمارها المدمّرة صناعةً للحرب الدائمة التي يريدون خوضها على كل ساحة وفي كل يوم. النتيجة أن تفاجئهم الحرب في عقر دارهم، ومن حيث لا يحتسبون ولا يتدبرون.

فمتى يستيقظ اللبناني من كهوفه الطائفية ويتحرر من ارتهانه للمشاريع الخارجية؟ متى يتعقل لكي ينخرط في بناء التسوية مع شركائه في الوطن واللغة والمصلحة؟! أقصد التسوية الجادّة والصادقة التي تشكّل خريطة طريق لوقف النزاعات الدائمة، وليس التسوية الخادعة والمفخخة، التي هي مجرد هدنة هشة تنتظر ساعة الانفجار، عند تغير الموازين والمعادلات في الميدان وعلى أرض الواقع.

فرنسا واللغم الإسلامي
في ما يخص فرنسا، يتداعى الى الذهن سؤال مركزي بل وجودي: ما الذي فعلته الإعتداءات في نفوس الفرنسيين الذين كانوا يتهيأون لاستقبال أعياد الميلاد ورأس السنة، قبل أكثر من شهر من مواعيدها، على ما هي عادتهم كشعب يحتفي بما تستحقه الحياة من الحب والشغف أو الأنس والفرح أو اللهو والتذوق والإستمتاع؟!

من هنا سوف تترك المذبحة المروعة أثراً عميقاً لدى الفرنسي يطال عقله ووجدانه وذاكرته ومشاعره. نحن إزاء هزة كيانية تعرضت لها فرنسا تضعها أمام تحدٍّ مصيري. ما أعتقده أنها ستتغيّر على نحو جذري، ولن تعود كما كانت عليه. بل هي أصلاً كان عليها أن تتغير بعد مجزرة "شارلي إيبدو". لكنها لم تفعل ذلك، لكونها باتت مقيّدة، عاجزة، بل ممزقة بين كتلها وتياراتها وأحزابها السياسية والثقافية والمجتمعية: بين اليمين واليسار، بين الجمهوري والإشتراكي، بين الجبهة الوطنية والقوى الديموقراطية. باختصار: بين دعاة السيادة والحفاظ على الهوية النقية، وبين ذوي النزعة العالمية من دعاة الإنفتاح وممارسة الهوية الوطنية بصورة عابرة للحدود.

لكن فرنسا ستجد نفسها الآن مجبرة على مواجهة التحدي ومعالجة المشكلة المزمنة، بتغيير سياستها واستراتيجيتها وطريقتها في إدارة الشأن العام، في ما يخص مشكلات السيادة والهوية والهجرة والأقليات، وخصوصاً في ما يتعلق بوضع الطائفة الإسلامية التي باتت أشبه بلغمٍ يهدد وحدة المجتمع الفرنسي.
وأنا، فيما اشارك في المناقشة العالمية الدائرة حول الإرهاب، الذي بات آفة تهدد الأمن العالمي ومعالم الحضارة البشرية، أوجز قراءتي للحدث، بدلالاته ومفاعيله، في النقاط الآتية:

* من الطبيعي أن الإجراءات والتدابير الأمنية الإحترازية، التي سوف تتخذها السلطات الفرنسية، ستكون شديدة ومضاعفة الى أقصى الحدود. لكن ذلك لا يعني أن تتحول فرنسا الى دولة بوليسية أمنية، إذ بذلك تحقق غرض الإرهابيين لتصبح على شاكلة دولنا العربية الديكتاتورية أو الفاشية.

* يجدر بفرنسا العلمانية، الجمهورية، الديموقراطية، المدنية، أن لا تتراجع أمام ما تمارسه بعض مكوّناتها الدينية أو أطيافها السياسية، من الإبتزاز والإرهاب، تحت هذا الشعار أو ذلك. مثل هذا التراخي هو الذي أوصل الى هذا الإنفجار الكبير.

* سوف تحتل الهوية الفرنسية صدارة الإهتمامات والمشاغل، لكي تتراجع الهويات الفرعية. فالأمر يتعدى القضايا والمطالب والمخاوف الخاصة بهذه الطائفة أو تلك المجموعة. المسألة هي أكبر من الجميع، لأنها تعني الجميع، بوصفها قضية مصيرية. من هنا أعتقد أن قضية اليهود، التي كانت في رأس الأولويات سوف تهوي من أعلى السلم، لتنتهي فزّاعة المعاداة للسامية، التي استخدمها الأخطبوط اليهودي طوال عقود لقمع الناس وترهيبهم.

سقوط الرهان
* سقوط الرهان على المصالحة بين الإسلام والحداثة، كما كان يأمل أو يدعو كثر من الفرنسيين، بمن فيهم الفرنسيون الآتون من دول المغرب العربي. فلا وجود لإسلام وسطي معتدل، كما لا معنى للكلام على "إسلام من دون خضوع". فالإسلام تمثله اليوم العقائد المغلقة والتيارات المتطرفة والمنظمات الإرهابية، كما ينطق باسمه ويجسده ثلاثة فاعلين: فقيه يشرّع وداعية يكفّر وجهادي يقتل وينفذ.

* مسؤولية المسلمين الفرنسيين هي مضاعفة، من حيث المساهمة في معالجة المشكلة المستعصية، فهم لم يحسنوا التكيف مع مجتمعهم الجديد، بل نقلوا اليه مجتمعهم الاصلي بعقائده وقيمه وطقوسه وعاداته. هكذا، طالبوا بحقوق انتزعتها الدولة الفرنسية من الكنيسة، وتعصبوا لهويتهم الدينية في بلد علماني مدني طلّق أهله الأديان، وظنّوا انهم آتون الى الفردوس وما هو كذلك بالنسبة إلى الفرنسيين. حتى مساحة الحرية التي تتميز بها فرنسا، حاولوا استغلالها لكي يغلّبوا أوامر النص ومنطق العبودية على قيم العقل والحرية.

* من هنا تأتي مسؤولية المسلمين في البلدان العربية، ممن يستنكرون ما يتعرض له، في رأيهم، "أخوانهم" في الدين من التمييز والإقصاء أو الإضطهاد. فهم غير مهيئين للدفاع عن حريات أو للمطالبة بحقوق لا يمارسونها أو يؤدونها في مجتمعاتهم، بل هم لا يحسنون سوى إنتهاكها. فنحن لسنا أهلاً لنؤستذ على الفرنسيين والأوربيين، وسط هذه الحروب التي يقتل فيها الأخ أخاه. يكفي شعوذة وتشبيح باسم القرآن والإسلام. لندع المسلمين الفرنسيين يبنون علاقتهم مع مجتمعاتهم الجديدة، وفقا لقيم الإعتراف والتداول أو الشراكة والتبادل، فضلاً عن قيم الحرية التي لا يعترف بها الدعاة المسلمون حيث يحكمون أو يسيطرون.

إصلاح الأمم المتحدة
* لن تفلح محاربة الإرهاب بالعقليات والأدوات التي سادت منذ نهاية الحرب الكونية وفي مرحلة الحرب الباردة.
وإذا كانت حرب المنظمات الإرهابية على فرنسا، قد هزّت العالم وتركت أثرها في كل مكان، وبخاصة في العالم الغربي، لكي تجعل الجميع يشعرون بالخطر المحدق، فمعنى ذلك أن محاربة الإرهاب، ومن يقف وراءه، تحتاج الى إحداث تغييرات بنيوية تطال هيئة الأمم المتحدة التي يجدر بها أن تعيد النظر في سياستها وطريقة معالجتها للمشكلات العالمية والكوكبية، لكي تعيد بناء نفسها وتطوّر مؤسساتها ومواثيقها، بحيث تتوقف عن كونها شاهد زور لتصبح مؤسسة فعالة.

أخصّ ما يمكن مراجعته هو حق التدخل الكوني، لوقف حروب الإبادة أو لمعاقبة من يرتكبون جرائم في حق الإنسانية، أكانوا من زعماء الأنظمة الديكتاتورية أم من أمراء التنظيمات الإرهابية. بكلام أوضح: لن تنجح محاربة الإرهاب، في ظل خرق القوانين والمواثيق واعتماد معايير مزدوجة في التعامل مع الطغاة والمجرمين وبرابرة الإرهاب.

* في ما يخص العالم العربي الذي هو بيت الداء وأصل العلة، لا فرق بين ملاك الله وملاك الأوطان، أي بين المرشد والطاغية. فهما عدوّان متواطئان ضد الشعوب العربية. كلاهما عمل على تخريب الثورات العربية التي بدأت بدايات سلمية، مدنية، كما شهد العالم كله. هكذا كلاهما يحتاج الى دعم الآخر ويتغذى منه، كما تشهد التجارب في سوريا والعراق واليمن. فالطاغية يطلق الإرهابي من سجونه، والإرهابي لا يعمل إلا لخدمة الطاغية، كما تشهد العلاقة بين "داعش" والنظام السوري، وكما اعترف، بعد فوات الأوان، وزير الخارجية الأميركي جون كيري.
من هنا، فالحرب على الإرهاب هي حرب مزدوجة، ضد الأنظمة الديكتاتورية والمنظمات الإرهابية في آن واحد. وإذا كانت فرنسا، بعد الهجمة الإرهابية الأخيرة، ترى أن الأولوية هي الآن لمحاربة "داعش"، فإنها بذلك تصلح الخطأ بارتكاب خطأ مضاعف، ستكون أثمانه باهظة.

باختصار، إن الحرب على الإرهاب تحتاج الى صوغ مفاهيم ومواثيق جديدة، بعد كل هذه الإساءات إلى حقوق الإنسان والإنتهاكات المتواصلة للحريات الديموقراطية والحقوق المدنية. هذا يحملنا على إعادة النظر في الصور والنماذج والقيم التي نصنع بها عالمنا الإنساني. فلعل إنسانيتنا هي فضيحتنا ومصدر مصائبنا وكوارثنا.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة