السبت ٢٧ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: شباط ٧, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
سلام عصيّ واستسلام أبعد منالاً - عمر قدور
تعليق مفاوضات جنيف، التي لم تبدأ، حدث لم يفاجئ أحداً إطلاقاً. حتى رعاة المؤتمر، الذين ضغطوا على المعارضة لحضوره، لم يُظهروا اكتراثاً جدياً بانطلاق المفاوضات، ما يغري بالظن أن التجميد واستهلاك الوقت جزء محسوب سلفاً من العملية. اشتداد العدوان الروسي على المعارضة والمدنيين يظهر هو الآخر بوصفه جزءاً من عملية جنيف، ولا يكفي لتبريره القول إن الأنشطة العسكرية ترافق المفاوضات لتعزيز الموقع التفاوضي، فوزير الخارجية الروسي أعلن على الملأ فصل عمليات قواته عن المفاوضات وعدم خضوعها للتفاوض، بل استمرارها حتى القضاء على الإرهابيين، وفق تعريف موسكو.

كما بات معلوماً، لقد بُدئت عملية جنيف بسقف متدّنٍ من التفاهم الأميركي - الروسي، الذي ينص على الإبقاء على النظام كما هو، مع الإبقاء على رؤوسه المتورطة بجرائم كبرى وصفها غير تقرير حقوقي دولي بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. التذكير بالاعتبارات الأخلاقية صار نافلاً، من وجهة نظر «المجتمع الدولي» وأيضاً من وجهة نظر من يرون التسوية الأميركية - الروسية أمراً واقعاً ضمن المخطط المرسوم، لذا سيكون من الأفضل عدم التطرق إليها بصفتها الأخلاقية العامة، لكن إهمال فعاليتها السياسية الداخلية، على فرض نجاح مخطط جنيف الحالي، سيكون خطأ أيضاً لأن المظلومية ناشئة حقاً، وستبدأ آثارها المديدة بالظهور مع إعادة فرض سيطرة النظام على البلاد.

ما يعيه السوريون أكثر من غيرهم، أن النظام تموضع طيلة حكمه كقوة حرب، وأنه منذ بدء الثورة تموضع كقوة بطش وإبادة وتطهير عرقي. التسوية كانت ممكنة قبل ارتكاب جرائم الإبادة على نطاق واسع، طبيعة النظام هي ما منع التسوية حينها، وهي ما سيمنع أية تسوية مستدامة تبقي عليه. هذه ليست افتراضات نظرية، على الأرض من قاد عملية إبرام هُدن موضعية صغيرة مع فصائل المعارضة هم المفاوضون الإيرانيون، وفي عديد المرات تولى ضباط النظام إفشال الهدن. الأهم، أن كافة الهدن المبرمة لم يلتزم النظام بمندرجاتها، وفي ما بعد استمر مع الحليف الإيراني بسياسة الحصار وتجويع المدنيين في تلك المناطق.

الشروط التي طرحها النظام في أكثر من عملية تفاوض لم تكن تنص على الاستسلام غير المشروط، كان النظام يضع شروطاً حتى على الاستسلام، والشرط الأكثر إذلالاً أن يوافق مقاتلو المعارضة على الانخراط في قوات النظام وقتال أهلهم إلى جانبه.

التطهير العرقي هو الاحتمال الآخر الذي طرحه المفاوض الإيراني، فإما أن يصبح السكان موالين تماماً ويقاتلوا إلى جانب النظام، أو يرحلوا عن بيوتهم وأراضيهم. المساكنة بين النظام ومن لا يوالونه مستحيلة بموجب ما يطرحه هو وحلفاؤه.

هذا النهج ليس وليد حالة الحرب، إنها بنية النظام التي لا تقبل بمستوى مهما بلغ تدنيه من المعارضة والرأي الآخر، وهي بنية ستبقى فاعلة ما بقي النظام. الثورة اندلعت بسبب هذه البنية تحديداً، ومن دون بخس السوريين اعتبارهم يجوز القول إنهم دُفعوا إلى خيار المواجهة بعد انعدام الخيارات الأخرى، بما فيها تلك غير اللائقة إنسانياً. الأمر لا يتعلق قطعاً بنخبة معارضة تستطيع رفع راية الاستسلام، ولا بوفد تفاوضي مهما كان أداؤه، ما يدركه السوريون الذين قطعوا مع النظام هو استحالة العودة ضمن تسوية تضمن لهم الحد الأدنى، تسوية تجنبهم الانتقام القادم بعدها لأن النظام لن يضمن بقاءه مرة أخرى إلا بوصفه قوة حرب.

على رغم التشابهات المريرة، أخطأ سوريون أولاً بتشبيه القضية السورية بنظيرتها الفلسطينية، هذا التشبيه قد يصح فقط من زاوية التعاطي الدولي مع القضيتين، لكن أهم ما يغفله طبيعة العدو في الحالتين. لندع جانباً المخيال العامي الذي شيطن إسرائيل بالمطلق، إسرائيل تصبح عدواً مشتهى بالمقارنة مع النظام، والأمر لا يتوقف عند تواضع جرائمها مقارنة به، هو يتعلق أساساً بالفارق بين كل منهما. ديموقراطية إسرائيل، مهما كانت داخلية ومقتصرة على العنصر اليهودي، تردع النظام الإسرائيلي وتحكمه ببنية حقوقية عامة. لقد اضطرت حكومات إسرائيلية إلى سنّ قوانين تمييزية خاصة في حربها على الفلسطينيين، وهذا اختلاف جذري عن نظام الأسد الخارج عن القانون تماماً، والذي يخوض منذ عقود حرب وجود بلا ضوابط على السوريين.

كي نفهم عملية جنيف على نحو أمثل، فإنها إعادة تأهيل النظام فقط ليصبح قادراً على قبول استسلام معارضيه بإخراج لائق. هذه الخلاصة لا تعني شيئاً من قبل النظام، وهي منافية لبنيته أساساً، الإخراج المذكور لازم للمجتمع الدولي بالمعنى الأخلاقي الشكلي فقط، أما من الجانب السياسي فالقوى الفاعلة دولياً أنجزت اصطفافها لمصلحة الإبقاء على بشار الأسد. خفة القوى الدولية لا تتعين في محاولة فرض تسوية لن تقبل بها المعارضة، حسبما يُشاع، وإنما تتعين أولاً في المراهنة على تغير لن يخاطر به النظام، أو بالأحرى ليس قادراً على مثل هذه المخاطرة.

دائماً كانت «مرونة» النظام الخارجية على حساب تصلبه المطلق في الداخل، وكان يفضّل الحكم بتوكيل خارجي على الحصول على أدنى توكيل ديموقراطي داخلي، حتى إذا بدا متاحاً في بعض الفترات، وأن يبقى اليوم بموجب توكيل دولي جديد فذلك مما ناضل النظام لأجله طيلة السنوات الخمس الأخيرة. كل ما يُشاع عن عدم قدرة النظام على العودة إلى ما قبل آذار (مارس) 2011 لا يطابق ما يسعى إليه، فما يريده هو العودة إلى ما تلا المواجهة مع الإخوان عام 1980، وتحديداً إلى التغول الأمني الذي ساد بعد انتصاره آنذاك.

بجنيف أو من دونه، لن تتوقف الهجمة الوحشية الروسية، إلا في حال بدأت تخسر ميدانياً، وهذا احتمال مستبعد اليوم بسبب ما يشبه الاتفاق على قطع الإمدادات عن المعارضة. استسلام المعارضة أو عدمه لن يغير في المعطيات الميدانية أو الــدولية، ولا يعدو كونه حاجة أخلاقية للذين ادّعوا صداقتها يوماً. التفاوض الفعلي ربما هو بين المعارضة و «أصدقائها»، أما مع النظام فلن يكون هناك سلام أو استسلام متاحـــان. المعروض هو الهزيمة المطلقة وتهجير من لا يقبل بها خـــارج الحدود. لكن، إذا كان النصر النهائي متاحاً دائماً لمَ تستعــــجل التوقيــع عليه موسكو وإدارة أوباما في أشهرها الأخيرة؟


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يؤكد حصول «تغييرات طائفية وعرقية» في سوريا
انقسام طلابي بعد قرار جامعة إدلب منع «اختلاط الجنسين»
نصف مليون قتيل خلال أكثر من 10 سنوات في الحرب السورية
واشنطن تسعى مع موسكو لتفاهم جديد شرق الفرات
دمشق تنفي صدور رخصة جديدة للهاتف الجوال
مقالات ذات صلة
سوريا ما بعد الانتخابات - فايز سارة
آل الأسد: صراع الإخوة - فايز سارة
نعوات على الجدران العربية - حسام عيتاني
الوطنية السورية في ذكرى الجلاء! - اكرم البني
الثورة السورية وسؤال الهزيمة! - اكرم البني
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة