الأحد ٥ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٢٣, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
الانتخابات البلديّة في لبنان والارتكاس الى ما قبل الحداثة - كرم الحلو
الديموقراطية المعاصرة ذات أسس ومبادئ تنتمي أصلاً الى المنظومة الفلسفية للفكر الليبرالي. أول هذه الأسس والمبادئ، إعادة الاعتبار الى الفرد الحر السيد، وانتزاعه من التكوينات العصبوية ما قبل الحداثية التي تماهي بينه وبين الجماعة القبلية أو الاثنية أو الطائفية، تم سحقه كفرد وكذات مستقلة تأخذ بيدها زمام وجودها. وثانيها، مبدأ المواطنة الكاملة من دون أي تمييز بين الأشخاص تبعاً لانتماءاتهم الدينية أو الطبقية. أما ثالثها وأهمها، فمبدأ العقد الاجتماعي باعتبار المجتمع تعاقداً حراً بين أفراد أحرار يقررون بأنفسهم شكل علاقاتهم الإنسانية والمدنية في ما يسمى بـ «المجتمع المدني».

بهذا التوجه تكون الديموقراطية المعاصرة النقيض التام للتركيبة السياسية والاجتماعية السائدة في مجتمعات ما قبل الحداثة، والتي تختلف اختلافاً جوهرياً عن المجتمع الحديث، حيث العملية الانتخابية ذروة التأكيد لفردية المواطن ومدنيته ومركزيته في الوجود السياسي والاجتماعي.

إلا أن الانتخابات بمعناها الحداثي، تتحوّل في غياب مقومات الحداثة الى آلية لإعادة إنتاج ما قبل الحداثة في صورة مخادعة ومضللة، توهم بالتحديث والعصرنة، بينما هي تسير عكس التاريخ وعلى الضد من حراكه، ترتكس الى الماضي بدل أن تعانق الحاضر وتتقدم نحو المستقبل.

تحضر هذه التصورات بحدة اليوم في لبنان، عقب قرار إجراء الانتخابات البلدية. فقد مثل الإعلان عن هذه الانتخابات نوعاً من هستيريا جماعية راحت تنقب في ماضي الأفراد والجماعات عن العصبويات القديمة والبائدة أو المستمرة والمستحدثة، حتى بدا كأن كل جماعة أو شلة، فاقت أو اتسعت، تخوض معركتها الذاتية التي على أساسها يتحدّد دورها وقيمتها ومستقبلها في موازاة باقي الشلل والجماعات، بصرف النظر عن مصلحة المجتمع والدولة، كأنما المدن أو البلدات أو الأحياء جزر لا تحدها هموم الوطن ولا تقتات من هوائه وروحه.

لكأن مجتمع الملل العثماني لا يزال كامناً فينا، لا تعوزه أكثر من مناسبة كي يستيقظ وينبري حياً فاعلاً. فخطاب الانتخابات البلدية السياسي لا يختلف كثيراً في مضمونه عن خطاب الجماعات الطائفية إبان الحكم العثماني، حتى كأننا أمام زحف جديد لقبائل القرون الوسطى وعشائرها وعائلاتها متلبساً بعباءة الحداثة والمعاصرة، حيث لا أفق للحراك البلدي الراهن أبعد من إدارة شؤون القبيلة أو العشيرة أو الجب والعائلة، وليس غريباً في هذه الحالة، أن تتحول البلدية مجلساً قبلياً أو عائلياً بحتاً يتكفل مصالح القبيلة أو العائلة ومن يدور في فلكهما، في حين أن المجتمع اللبناني يواجه أخطاراً وتحديات هائلة ومصيرية، اجتماعية وديموغرافية وبيئية.

اجتماعياً، ثمة آفاق مسدودة وهجرة متواصلة للشباب والمثقفين نتيجة تنمية مأزومة عاجزة عن امتصاص القلق الوجودي المحيق بالمجتمع اللبناني، سواء في الأرياف أو في المدن. ديموغرافياً، ثمة تصاعد مربك في الكثافة السكانية في المدن في مقابل هجرة متمادية في الأرياف، ذلك كله من دون رؤية مستقبلية تستوعب الأجيال الجديدة وتلبي حاجاتها المتزايدة الى السكن والعمل والتعليم وسوى ذلك من ضرورات الحياة العصرية. بيئياً، تتعاظم الأخطار على سلامة الحياة وصحتها نظراً الى اكتظاظ المجتمعات المدينية وضواحيها بالبناء العشوائي، وازدحام الشوارع والساحات بالآليات من كل الأنواع والأحجام، مع ما يسبّبه ذلك من تلوّث الهواء والتربة والمياه وتراكم النفايات، من دون أي خطط جدية لمواجهة هذه الأخطار وكيفية التعامل معها في ظل ندرة متزايدة في المياه والطاقة.

قد تكون هذه الهموم فوق قدرة المجالس البلدية، إلا أن هذه تستطيع، فيما لو كانت لديها ثمة رؤية حداثية، المساهمة في الحد منها، بالسهر على سلامة البيئة وهدر المياه وإيجاد تصور ناجح لمشكلة النفايات، والعمل من أجل تواصل فعلي بين الأجيال، وتنظيم الأبنية السكنية، بما يؤدي في خاتمة المطاف الى حياة آمنة ولو في الحد الأدنى. ثمة بلديات على ندرتها قاربت هذه الإشكاليات أو خطت في اتجاهها، إلا أن خطاب الانتخابات البلدية السائد حالياً لا يشي بذلك، بل إنه يعيد إنتاج إشكالنا التاريخي مع الحداثة، يبعدنا أكثر فأكثر من هموم المعاصرة، يشدنا مجدداً الى عصائبنا الأهلية وقضاياها البائسة.

* كاتب لبناني



الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة