السبت ٤ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: نيسان ٢٤, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
اعترافات (اوباما) لا تغسل الذنوب! - محمد الحدّاد
لم يشذّ الرئيس باراك أوباما عن القاعدة، فقد فتح في الأشهر الأخيرة من عهده باب الاعترافات، فأقرّ مثلا، في مقابلة مع قناة «فوكس نيوز» التلفزيونية أجريت في نيسان (أبريل) الجاري بأنّ أكبر خطأ ارتكبه في سياسته الخارجية كان ليبيا، إذ تمّ التخطيط للتدخل العسكري ثم تُرك البلد لحاله، بما أدّى إلى انهياره وانتشار المجموعات المتطرفة في ربوعه. هكذا إذن، أميركا بكلّ مؤسساتها وخبرائها واستراتيجييها لم تكن قادرة على توقّع هذا المصير في ليبيا، ولم تتفطّن إلى خطورته إلاّ متأخرة، وقد ندم عليه رئيسها بعد فوات الأوان. ولم يكن إلا من قبيل الصدفة أن جهات معينة استفادت من هذا الوضع، مثل شركات الإعمار التي ستعيد بناء ما كان قائماً، أو المصارف الأجنبية التي تبخّرت منها ودائع البلد، أو السوق السوداء للنفط الليبي التي ازدهرت على مدى سنوات. كلّ الأمر كان مجرّد خطأ مُحي بتوبة نصوح.

أوباما لم يبتدع طقوس الندم والاعتراف بعد فوات الأوان. لقد أنهى سلفه بوش الابن أيامه الأخيرة في البيت الأبيض بالاعتراف لصحيفة «الغارديان» البيريطانية، في كانون الأول (ديسمبر) 2008، بأنه أخطأ في إدارة التدخّل في العراق، لأنه استند إلى معطيات خاطئة، وأقرّ بأن إدارته لم تكن تملك خطة محكمة للسيطرة على الأوضاع بعد التخلص من صدام حسين ونظامه، وقدّم بوش الأمر وكأنه مجرّد خطأ بسيط في التقدير، متغافلاً عن العواقب البشرية المروعة التي ترتبت عن سوء التخطيط، والمتواصلة إلى اليوم.

وكان وزير دفاعه أيام الحرب، دونالد رامسفيلد، قد أقرّ أيضاً بالخطأ، لكنه تنصّل منه وقال في تصريح مثير لصحيفة «التايمز» البريطانية، نشر في حزيران (يونيو) 2015، إنه شخصياً لم يكن يرى واقعياً مشروع إحلال الديموقراطية في العراق، لكنه لم يوضّح ما كانت في رأيه شرعية التدخل العسكري هناك ما دامت الديموقراطية، في زعمه، مستحيلة، ووجود أسلحة الدمار الشامل أسطورة. وبما أنّ الأميركيين والبريطانيين أمة واحدة في طريقة إدارة شؤون الشرق الأوسط، فإنّ رئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير طلب المعذرة أيضاً وأقرّ بالخطأ والمسؤولية عن انتشار التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وقال في مقابلة مع قناة «سي آن آن» أنه وقع ضحية معلومات استخباراتية غير دقيقة.

لا شكّ أن السيد أوباما كان متابعاً، قبل تولّيه الرئاسة، لما يحصل في المنطقة، وأنه يعرف حجم الكوارث البشرية المترتبة على السياسات القصيرة المدى لبلاده. بل إنه وصل إلى الرئاسة بفضل حملة انتخابية تعهّد فيها بتغيير جذري لتلك السياسات. فاعترافه حول ليبيا ضعيف المصداقية، لأن الخطأ هناك من صنف الخطأ السابق في العراق، والخطأ في العراق يكرّر بدوره ما حصل قبله في أفغانستان. كانت التجارب الماضية كافية ليعلم القاصي والداني أنّ تدخلاً عسكرياً في منطقة الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون أبداً مجرد نزهة أو «تحريراً» يستقبل بالورود والأهازيج. بل إنّ أوباما أنهى عهده بوضع الفتيل لأزمات كثيرة مقبلة، بعد أن أطلق يد القادة الإيرانيين في المنطقة.

أخطاء الزعماء الغربيين في الشرق الأوسط قد تمحوها اعترافاتهم من أذهان مواطنيهم، لكن من المستبعد أن تمحى من ذاكرة ضحاياها. ولقد صدرت قبل أسابيع دراسة عتّم عليها الإعلام الغربي، تقدّر عدد ضحايا الحرب الغربية ضدّ الإرهاب منذ 2001 بين 1,3 مليون إلى مليوني شخص من أبناء المنطقة. هذه الدراسة تحظى بالجدية والمصداقية لأنها من إعداد الجمعية الأميركية المرموقة «أطباء من أجل المسؤولية الاجتماعية»، وهي تضمّ شخصيات تولّت مناصب عليا في إدارة السياسيات الصحية وأطباء حائزين على جائزة نوبل للطب. وقد اكتفت الدراسة بالفترة الممتدّة من 2001 إلى اليوم، وبالعراق وأفغانستان فقط، معتمدة منهجية علمية دقيقة في احتساب عدد الضحايا. وينبغي أن نضيف إلى تقديراتها المفزعة حوالى 1.7 مليون عراقي قضوا بسبب الحظر السابق للحرب، كما ورد في تقرير مشهور للأمم المتحدة، وحوالى مليوني أفغاني قتلوا في الحرب الأهلية، ومئات الآلاف من ضحايا عمليات القتل على وجه الخطأ، مثل ضحايا قصف المشفى الذي تشرف عليه منظمة «أطباء بلا حدود»، وقد اكتفى فيه الجيش الأميركي بالاعتذار أيضاً. وعموماً، تقدّر نتائج التدخلات الأميركية والبريطانية في المنطقة منذ 1990 بين 6 و 8 ملايين ضحية، من دون توقّع نتيجة إيجابية لأبناء المنطقة من هذه التدخلات غير المدروسة.

إعادة الخطأ نفسه على مدى عقود متواصلة يثبت أنه من نوع الخطأ المقصود، والإقرار به عملية دعائية قد تنطلي على الرأي العام الغربي، لكنّها لن تغيّر العواقب الوخيمة، والاعتراف به أمام وسائل الإعلام يعوّض عن طقوس الاعتراف أمام الكاهن لكنه لا يؤدّي إلى البراءة في حكم التاريخ. لكنّ الأهم هو السؤال التالي: إذا كانت كلّ الأخطاء قد حصلت نتيجة معلومات مضلّلة، كما أعاد المعترفون في كلّ مرّة، فمن هي الأطراف التي تنجح باستمرار في تضليل أقوى القادة في العالم وأكبر أجهزة الاستخبارات؟ من يكون قادراً على قتل ثمانية ملايين شخص من دون محاسبة، ولكنْ أيضاً الايقاع برئيس أكبر دولة في العالم بكل سهولة؟ المؤكد أن لا أحد سيقدّم يوما اعترافا يميط اللثام عن هذا اللغز! لكنّ الجواب البديهي أنّ جشع بعض اللوبيات والجهات المالية أصبح أقوى من القدرة على التمييز لدى أكبر قادة العالم. يكفي أن نرى أنّ الإدارة الأميركية اكتفت بتمويل بعض الصحافيين للتحقيق في الملاذات الضريبية في بنما، بدل أن تسنّ القوانين والتشريعات الملزمة لمنع العمليات المشبوهة، كي ندرك أنّ قادة الدول الذين يصلون إلى الحكم بفضل التمويلات الضخمة لحملاتهم الانتخابية أصبحوا تحت سيطرة الجهات المالية التي تموّلهم، ولذلك تكثر أخطاؤهم المقصودة، طالما كان ضحاياها من غير ناخبيهم.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة