الجمعه ٣ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيار ١, ٢٠١٦
المصدر: جريدة الحياة
عن الملل والسياسة و «بيروت مدينتي» - سامر فرنجية
في لحظة تبدو معها السياسة معدومة في لبنان، كان من المفترض أن تمرّ الانتخابات البلدية من دون أي أثر يذكر، لتكرّس حالة الملل العام المسيطرة على البلاد. وكان من المفترض أن تشكّل «لائحة البيارتة» حائطاً منيعاً من الضجر لا تخرقه إلاّ تغريدات وزير الداخلية، الذي نصّب نفسه وصياً على رئيس «البيارتة». وكان من المفترض أيضاً أن تقوم المعارضة المعتادة لهذه اللائحة من موتها السريري لتلعب دورها في مسرحية الملل هذه، وتعيد الأمور إلى طبيعتها بعد صيف بات فيه الضجر مُهدَّداً من بعض المندسّين.

كادت حالة الملل هذه أن تغطي على ترشيح لائحة «بيروت مدينتي»، التي بدت في البداية محاولة ساذجة لخوض معركة في أكثر المناطق احتكاراً لتحالف القطاع العقاري والأحزاب الطائفية والمصالح الاقتصادية. بيد أنّ هذه «السذاجة»، التي وضعت اللائحة «خارج السياق الوطني» وفق تعبير زياد ماجد (ناو ليبانون، ١٩-٤-٢٠٠٦)، كانت الترياق الأفضل لحالة الملل هذه وحوّلت «بيروت مدينتي» إلى حملة وحيدة ذات معنى وجدوى في الاستحقاق الحالي. ففي وجه تحالف المال والملل، قامت لائحة لا تشبه سياقها العام، تسلّحت بالسذاجة لتحارب الضجر العام وقدّمت إحدى «الترجمات» الممكنة لحراك الصيف المدني. وعلى رغم كل التوقعات، نجحت في أن تفرض نفسها عنواناً لانتخابات بيروت، وإن كانت الطرف الأضعف فيها.

بيد أن هذا النجاح المتواضع أزعج بعض المدمنين على الملل، لتتحوّل تهمة السذاجة إلى خطيئة «اللا - سياسة»، ومفادها أنّ «لا - سياسية» الحملة تجعلها مشروعاً ناقصاً غير قادر على ابتكار معارضة فاعلة للنظام الحالي، واستسلاماً للميل العام للنفور من «السياسة». ويقوم هذا الاتهام على اعتراضين، وُجها من الحراك المديني. فالنقطة الأولى هي مسألة العلاقة مع متعهّدي الاعتراض التقليديين والأحزاب «الحاضنة» لهم، حيث اتهمت حملة «بيروت مدينتي» بطهارة لا - سياسية في رفضها التحالف مع قوى سياسية معينة. فإذا كان صحيحاً، مثلاً، أنّ موقفاً كهذا أضعف الحراك وحرمه «جماهير» تلك الأحزاب، وأن حملة «بيروت مدينتي» قد تضعه في المعضلة ذاتها، فهذا الموقف ليس رفضاً للسياسة كما يدّعي بعضهم، بل محاولة للتعاطي معها انطلاقاً من حالة الأحزاب المأزومة. فلم يشهد أي حزب لبناني، غير الحزب الشيوعي اللبناني، حالة اعتراض داخلي تواكب التحوّلات السياسية، ما قد يسمح باعتبارها لا أكثر من أجسام سياسية متخشبة أو آلات للتجييش الطائفي والتوزيع الزبائني. بهذا المعنى، فمطلب الاستقلالية لم ينبع من طلب طهارة لا - سياسية، بل من محاولة للبحث عن أطر سياسية مختلفة بعد لحظة إفلاس الأحزاب اللبنانية كأطر للتجديد السياسي.

غير أن النقطة الأهم، والتي تحدّد سياسية مبادرات كهذه أو عدمها، مرتبطة بالخطاب السياسي العام الذي يوجه ويؤطر ترشيحات كهذه. فابتعاد مبادرة كـ «بيروت مدينتي» من الخطابات السياسية وتركيزها على الحلول «العلمية» و«العملية»، قد يعزز ما يبدو كأنه خضوع لخطاب «الخبراء» و«المنظمات الدولية». بيد أنّ هذا ليس مأزق الحملة بقدر ما هو مأزق الخطابات السياسية المعتادة لتلك المبادرات، والتي باتت بأكثريتها فاقدة أي مصداقية أو فاعلية أو التقاط للواقع، هذا إن لم تكن قائمة على تنازلات أخلاقية وسياسية تجعلها شريكة لقوى الأمر الواقع.

بهذا المعنى، فـ «لا - سياسية» تجربة مثل «بيروت مدينتي» ليست ناتجة من جهل بالنيو - ليبرالية العالمية أو من حب لخطاب المنظمات الدولية، بل من محاولة للبحث عن بديل للتكرار الذي لم يعد يرضي إلاّ صاحبه بفعل «لا - سياسي» بامتياز.

ما يبدو نفوراً من السياسة أو عملاً «لا - سياسياً» قد يكون اليوم المساحة الأخيرة للسياسة أو إمكان السياسة الوحيدة ضمن حالة الملل العام. هذا لا يعني أنه يجب تمجيد «اللا - سياسة» و«الاستقلالية» و«البرنامج»، لكنه يعني الانطلاق من الاعتراف بالمأزق العام الذي حوّل «اللا - سياسة» إلى فعل سياسي. أما تكرار بعض اليساريين أن منظومتهم دائماً جاهزة لكي تفسر وتؤطر وتحرك أي مبادرة، فليس إلاّ الجزء التراجيدي من هذه الأزمة. «بيروت مدينتي» لم تأت خارج أي سياق، بل هي مرحلة في سياق حركات اعتراضية، تبحث عن الخطاب السياسي الذي يمكن أن يحدد معالمها ويقدّم لها روايتها التاريخية ويحددّ طابع عدوّها وحلفائها. بهذا المعنى، فالحراك وما أنتجه، أو حملة «بيروت مدينتي» والنقاشات التي أثارتها، وغيرها من المبادرات، هي محاولات للبحث عن هذا التسييس.

سياسية أو لا سياسية «بيروت مدينتي» قد لا تؤثر في نتائج الانتخابات. لكن هذا لا يعني أن نتائج الانتخابات غير مهمة لكون الترشيح «مبدئياً». فالنتيجة مهمة، وإن كانت ليست انتخابية. فقد شهدت مثلاً العملية الانتخابية، قبل الـ٢٠٠٥، ترشيحات «مبدئية» في وجه «المحادل» المدعومة من نظام الوصاية، لم تكن تهدف الى الفوز بالانتخابات لكنّها لم تكن مجرد ترشيحات «مبدئية». كانت مراحل بعملية تراكمية سياسية، استطاعت أن تصل إلى هدفها وإن من خارج الانتخابات. والسؤال اليوم الذي تواجهه تلك المبادرات مرتبط بالبنيان السياسي الذي يحمل تلك العملية التراكمية. فالسياسة، كما كتب وسام سعادة هي «الرئة كي لا يستأثر الاختزال التقني الإداري المحض للأعمال بكل شيء» (المستقبل، ٢٥-٤-٢٠١٦). «بيروت مدينتي» قد لا تقدّم هذه الرؤية السياسية، لكنّها خطوة إضافية نحوها. أما من ينتظر مع منظومته الفكرية وتحالفاته السياسية أن يعود التاريخ وينصفه بعدما تاه، فهذا ليس إلاّ بحثاً عن تأكيد «لا سياسي» لخطابات بائتة.

حالة الملل ليست توصيفاً للواقع، بل هي توصيف للخطابات التي استعمرته، إمّا لتطويعه وإما للتذاكي عليه. فمهما كان تعريفنا اليوم للسياسة، فصفتها الأساسية قد تكون في ابتكار الجديد، وإن لمجرّد كسر حالة الملل هذه. وإذا كان هناك رقم واحد له معنى في أيام الأحد المقبلة، فسيكون نتائج «بيروت مدينتي» مهما كانت. ولهذا معنى سياسي قد يفوق كل ما كتب عن السياسة.


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
ماكرون يتوقع الأسوأ... والحريري يدرس الاعتذار
الفاتيكان يدعو البطاركة إلى «لقاء تاريخي» لحماية لبنان
البنك الدولي: لبنان يشهد إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية العالمية منذ منتصف القرن 19
عون: الحريري عاجز عن تأليف حكومة
اشتباكات متنقلة في لبنان على خلفيّة رفع صور وشعارات مؤيدة للأسد
مقالات ذات صلة
حروب فلسطين في... لبنان - حازم صاغية
نوّاف سلام في «لبنان بين الأمس والغد»: عن سُبل الإصلاح وبعض قضاياه
حين يردّ الممانعون على البطريركيّة المارونيّة...- حازم صاغية
عن الحياد وتاريخه وأفقه لبنانياً
جمهوريّة مزارع شبعا! - حازم صاغية
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة