الأثنين ٦ - ٥ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: أيلول ٢٠, ٢٠١٦
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
الليبراليون المصريون بين الأمس واليوم - أحمد طه
تبّنت بعض الشخصيات المحسوبة على التيار الليبرالي في مصر أخيراً بعض الآراء والمواقف المثيرة للجدل التي تستحقّ التوّقف والتأمّل في مضامينها السياسية ودلالاتها الفكرية، كونها تشير إلى الأزمة الكبيرة التي تعصف بالتيار الليبرالي المصري جرّاء إصرار رموزه على خوض معارك تتناقض إجمالاً وتفصيلاً مع أسس الليبرالية، والتي كان آخرها ما جاء على خلفية الأزمة التي أثارها قرار السلطات الفرنسية بحظر ارتداء زيّ السباحة الشرعي للنساء "البوركيني"، قبل أن تلغيه المحكمة الإدارية العليا الفرنسية كونه يتعارض مع الحريّات الدستورية.

خرجت بعض الأصوات الليبرالية المصرية تطالب بتطبيق قرار حظر "البوركيني" على الشواطيء المصرية. وفي السياق نفسه، وقبل أشهر، نادى بعض تلك الأصوات في تظاهرة نسائية عارمة بـ"خلع الحجاب".

المفارقة أن هذه الدعوات تأتي في وقت تشهد مساحة الحريّات تقليصاً كبيراً لا سابق له، فضلاً عن الانتهاكات الحقوقية بالمقارنة حتى بنهاية عصر مبارك، إذ تعرّض المجال العام مؤخراً لعملية تأميم واسعة النطاق. كما أقفلَ المجال السياسي بصورة شبه كليّة، فضلاً عن تمددّ خطاب فاشي في الفضاء الإعلامي يطعن في وطنية أي صوت معارض. ويبدو أنّ كلّ هذه المشكلات انتهت في نظر بعض الليبراليين، ولم يبقَ من شيء ينال من الليبرالية بمصر سوى "البوركيني" و"الحجاب"(!).

وتُعيد مثل تلك المعارك الخاطئة إلى الأذهان ما حدث في أعقاب نجاح ثورة "25 يناير" في إطاحة مبارك، وفي خضّم الجدل حول طريقة التعامل مع دستور1971، عندما سارعت بعض الرموز الليبرالية بالمطالبة بحذف المادة الثانية الخاصة بالشريعة الإسلامية أو تعديلها على أقل تقدير، وهو ما تلقّفته قيادات تيار التنطّع والتشدّد من أصحاب فقه الجلباب والنقاب الذين وقفت غالبيتهم ضدّ ثورة يناير بكل قوة ولم يلحقوا بقطارها سوى قفزاً في اللحظات الأخيرة مغتنمين تلك الفرصة الذهبية للعودة مجدداً إلى قلب المشهد والظهور بمظهر حامي حمى الهوية الحضارية لمصر من "خطر" الليبرالية التي صوّروها على أنها تعني حرية الفجور وأن "أمّك تخلع الحجاب" كما قال أحد المُتنطّعين(!).

ومن هنا اندلعت شرارة الاستقطاب الإسلامي-العلماني الذي سرعان ما تحوّل إلى حريق كبير، بعد استفتاء 19 آذار 2011 الذي كان في حقيقته استفتاءً على الهوية الحضارية لا على مجرّد تعديلات دستورية. وبفضل حماقة المتطرّفين من الطرفيْن، انحرفت ثورة "25 يناير" عن مسارها ومعركتها ذات المطالب السياسية–الاجتماعية الهادفة إلى تفكيك بنية الفساد والاستبداد وشبكات المصالح القديمة عبر إعادة توزيع السلطة والثروة. وتحوّلت معركة خاطئة تماماً بعيدة كل البُعد عن مطالبها تتمركز حول إعادة اكتشاف الهوية الحضارية من جهة، ومحاولة تقويضها من جهة أخرى.

في البداية يتعيّن التأكيد على أننا نستخدم وصف "التيار" على الليبراليين المصريين هنا من باب المجاز، فالحقيقة أن الليبراليين المصريين مجرّد "أفراد" متناثرين ومتشرذمين على عدّة "شِلل" نخبوية، لا يوجد خيط ناظم يجمعها ،سوى أنها تعيش في أبراج عاجية. وأبلغُ دليل على هذا ما دأب عليه الليبراليون من افتعال معارك ورقية بغير جندٍ، و إثارة عواصف وهمية بغير ريحٍ، لا تعني عموم الناس من قريب أو بعيد، فضلاً عن ابتعادها عن صلب قضايا الليبرالية المتمثّلة في الدفاع عن الحريّات والديموقراطية.

"مناكفة ومكايدة الإسلاميين"، كان هو العنوان الرئيسي للمعارك ذات الطبيعة "الاستشراقية" التي افتعلتها غالبية الليبراليين المصريين في الفترة الأخيرة، إذ انصبّت كلّ جهودهم تقريباً في اتجاه تقويض الهوية الحضارية وملاحقة مظاهرها ومحاولة تحجيم حضورها في المجال العام، في حين أنها غابت بصورة شبه كلية عندما يتعلّق الأمر بالحقوق والحريات وبالقضايا التي تُعدّ من صميم الليبرالية. فقد انشغل الليبراليون طيلة السنوات الماضية بالإجابة عن سؤال كيفية مكايدة الإسلاميين ومناكفتهم وتحجيم حضورهم أكثر من محاولاتهم كسر حالة الهزال الجماهيري والضمور الشعبي التي يعانون منها منذ عقود عبر التمددّ و محاولة بناء قواعد شعبية واكتساب أرضية مجتمعية بالاشتباك مع قضايا تمّس اهتمامات عموم المصريين.

وهو ما أوقع الليبراليين في تناقضات ذاتية صارخة ودفعهم إلى ارتكاب أخطاء أيديولوجية وفكرية وأخلاقية فادحة تمثّلت في تنكّرهم لأبسط مباديء الليبرالية عبر تحالفهم مع قوى سلطوية واصطفافهم مع توجّهات "دولتية" فجّة وتأييدهم لإجراءات استثنائية بالغة الخشونة نكاية في خصومهم الإسلاميين.

كل تلك المواقف العجيبة التي اتخذها بعض اللليبراليين المصريين أخيراً تدفعنا لاستدعاء مواقف أخرى صدرت من رموز ليبرالية تاريخية تندرج تحت ما يمكن أن نسميه "الليبرالية الوطنية" المتصالحة مع الهوية الحضارية، فلم تقع في تلك الوهدة "الاستشراقية" التي سقط فيها أدعياء الليبرالية من "المُتلَبلِرين" والعلمانيين المتطرّفين في الحاضر. فقد كانت تلك الرموز التاريخية الليبرالية ترى دوماً أن لنا "مرجعية حضارية" مميّزة لمجتمعاتنا ينبغي احترامها، تحمل قيمنا وتاريخنا، وثقافتنا، وهو ما دفعها إلى قصر مفهوم العلمانية على فصل الدين عن السياسة، لا فصل الدين عن المجتمع وسلخه عن هويته، وتبني قطيعة معرفية كاملة معها والسعي للصدام مع قيم مرجعيته الحضارية المميِّزة للتشكيل الحضاري العربي الإسلامي. إذ لا توجد دولة ولا نظام ولا فرد ولا جماعة إلا ولها مرجعية ما في تعاملاتها ونظمها وعلاقاتها، وتتكوّن من الأصول الفكرية والثقافية العامة التي تؤمن بها الجماعة، وتشكّل قوة التماسك الأساسية في تشكّلها بوصفها جماعة بشرية كما يقول المُفكّر الكبير طارق البشري.

فعلى سبيل المثال، عندما أصدر قاسم أمين كتابه "تحرير المرأة"، انبرى كثيرون للردّ عليه، وكان في مقدّمهم الليبرالي الوطني العظيم طلعت حرب باشا، أحد رموز الحركة الوطنية المصرية الذي سعى سعياً حثيثاً لتحرير الاقتصاد المصري من التبعية الأجنبية، عبر كتابيْن كامليْن كانا تحت عنواني "تربية المرأة والحجاب" و"فصل الخطاب في المرأة والحجاب". وقد هاجم خلالهما ما تبنّاه قاسم أمين من مرجعية غربية في دعواه لتحرير المرأة، مشددّاً على أن الدين الإسلامي لا يمنع مطلقاً تعليم المرأة وتهذيبها وتربيتها، بل هو يحضّ على ذلك ويأمر به، مختتماً الكتاب الأول منهما بقوله: "الحجاب أصل من أصول الأدب، فيلزم التمسّك به، إلا أن المطلوب أن يكون منطبقاً على ما جاء به الشرع".

وهو ما يتطابق تقريباً في مضمونه مع ورد في ردّ الزعيم الوطني العظيم مصطفى كامل باشا، أحد روّاد مدرسة "الوطنية الإسلامية"، فقد كتب مقالات عدة في صحيفة "اللواء" جاء فيها :"فنحن مصريون، ويجب أن نبقى كذلك، ولكل أمّة مدنيّة خاصة بها، فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلّدين للأجانب تقليداً أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ عن الغرب إلا فضائله، فالحجاب في الشرق عصمة، وأي عصمة، فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم، وعلموهنّ التعليم الصحيح، وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة وركيكة غير نافعة".

والمشترك في كلام حرب وكامل التأكيد على نقطة الحفاظ على هويتنا الحضارية من الاستلاب أمام الغرب، وأنّ الحجاب ليس "فريضة شرعية" وحسب، وإنّما هو سمة من سمات "الخصوصية الحضارية".

وفي نفس السياق يُروى عن الزعيم الجليل مصطفى النحّاس باشا، أنه كان شديد التديّن فلم يكن يتخلّف عن صلاة الفجر إلا نادراً، كما كان له وردٌ قرآني يومي. وبالرغم من هذا فإنه رفض استخدام الدين في العمل السياسي، فقد كان مع إبعاد السياسة عن الدين، لا إبعاد الدين عن السياسة، حتى أنه عنّف أحمد حسين زعيم "مصر الفتاة" على شعارها الذي كان: "الله... الوطن... الملك" لأنه رأى أن وضع كلمة "الله" في شعار سياسي لون من الشعوذة.

صفوة القول أن الليبراليين المصريين، لاسيّما الشريحة الشبابية منهم، بحاجة ماسة إلى وقفةٍ جدية، لمراجعة جذرية للأخطاء السياسية والأخلاقية الكارثية التي ارتكبتها رموزهم، والتي تشي بانفصال نفسي وذهني ووجداني عن المجتمع، إذ أن مدّ الخطّ على استقامته يقول إن مستقبلَ الليبرالية في مصر أسودُ وأنّ الليبراليين في طريقهم إلى الانقراض والاندثار.

كاتب مصري


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة