السبت ٢٠ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: آب ١٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في أولوية الوحدة واستعصائها العربي -كرم الحلو
كشفت حالة التشظّي والانقسام التي أحاقت بالمجتمعات العربية غبّ انتفاضات ما سمّي «الربيع العربي» عن الانشطار العميق في صلب هذه المجتمعات وائتلافها الوطني المخادع، حتى ان بعض الدول العربية بات من الصعب تصوّر التئامه في دولة مركزية من جديد، من العراق وسورية المهددتين بالتجزئة الإثنية والمذهبية الى ليبيا المشلعة عصائب وأقواماً الى اليمن المفتّت بالحرب الأهلية. الأمر الذي يؤكد أولوية إشكالية الوحدة المجتمعية، بل تقادمها واستعصائها في الواقع العربي، فالارتباك الذي عبر عنه فرنسيس المراش في ستينات القرن التاسع عشر لجهة الانقسام العصبوي للمجتمعات العربية، اذ رأى ان العرب قد لا يخرجون الى التمدن والصلاح إلا «بقوة المعجزات، وبعد ألف عام» لأنهم شعب منقسم على نفسه من كل قبيلة وملة تحت السماء، وكل حزب منهم يجتهد بخراب الآخر، فضلاً عن أنه ليست لديهم محبة وطنية منزهة عن الطائفية.

الارتباك نفسه يُستعاد مع قسطنطين زريق آخر القرن العشرين بصورة لا تقل احباطاً وتشاؤماً، فبعد ان كان يتكلم عن «الأمة العربية» كما يقول، بات يشك حتى في الكلام عن مجتمعات قطرية عربية، لإخفاقها في تكوين ما يصح ان يدعى «مجتمعاً» او «شعباً» وعجزنا جميعاً عن تحقيق التكتل الوطني او القومي.

الأمر الذي يستدعي التساؤل إزاء أطروحات التوحيد الوطنية والقومية وانتهائها على مدى أكثر من قرن ونصف قرن الى انسداد تاريخي مقلق، من بطرس وسليم البستاني وفرنسيس المراش الى قسطنطين زريق وياسين الحافظ والياس مرقص مروراً بنجيب العازوري وأنطون سعادة وساطع الحصري وأمين الريحاني. فقد بدت المجتمعات العربية مهددة على الدوام بالحرب الأهلية، ملغّمة بكل عوامل الانفجار الداخلي والتشرذم القبلي، حتى ليمكن القول ان النزاعات الراهنة تعيد انتاج نزاعات القرن التاسع عشر بـأشكال متجددة أو مشابهة. فهل ذلك عائد الى عوامل بنيوية متجذرة في بنية المجتمعات العربية ام الى عطب عميق في الإيديولوجيا القومية، نابع من جهة من اهتزاز المفهوم في الفكر العربي، ومن جهة أخرى من تناقضات الفكر القومي وإحجامه عن مقاربة اشكاليات الواقع العربي مقاربة واقعية وثورية في آن؟

اذ يعيد محمد عابد الجابري الإشكال الى عوامل بنيوية، مناطها بقاء العقلية القبلية في النفوس، ويرى مسعود ضاهر ان القبلية هي العائق الأساسي في تطور المشرق العربي، يرجع برهان غليون العلة الأساسية الى الدولة العربية التي لاذت الى القوة والقهر لتفرض نفسها على المجتمع وتوحده من فوق من خلال تعظيم أجهزة القمع وتحويل السياسة الى شبكة من علاقات التبعية تنخر مفهوم السياسة الحداثي وتقضي عليه، فيما هي تتكئ على العصبيات الجزئية للإمساك بمجتمع ينزع الى الانفجار والتفتت، ويذهب فؤاد اسحق الخوري الى ان القبلية عائق في طريق الوحدة السياسية.

ازاء هذه الطروح البنيوية التي تعزو استمرار الانشطار الى بنية المجتمعات العربية نرى ان اهتزاز المفهوم الوطني والقومي والتباسه واستناده الى أسس ايديولوجية هشة هو ما عمق الانقسام بدوره وأعاق وحدة المجتمعات. فلا اللغة العربية ولا الثقافة العربية بافتراضهما موحدتين، ولا الإسلام الذي تدين به أكثرية العرب، ولا التاريخ ولا الجغرافيا اللذان يتواصلان او ينقطعان، هي مقومات حتمية مؤكدة لوحدة المجتمعات العربية في رأينا، بل ينبغي البحث عن شرعية او مشروعية الوحدة المجتمعية في عقد اجتماعي أساسه إرادة العيش المشترك في اطار جغرافي بشري معين. من هنا بالذات يجب الانطلاق، باعتبار ان الإنسان العربي وحده هو الذي يصنع التاريخ، وهو المسؤول عن الوقائع التاريخية، بتعبير العروي، ومنه ومن إرادته، يكون التطلع الى مجتمعات موحدة او أمة واحدة. ومن هذا المنظور كذلك يجب ان يتجه انساننا وفكرنا الإيديولوجي الى البحث في كيفية تجاوز التجزئة بكل أشكالها الإثنية والطائفية والمذهبية، باتجاه الوحدة إن على أسس وطنية او قومية او مدنية، اذ من دون هذه الوحدة لن تكون هناك تنمية او حرية او ديموقراطية او خلاص من التبعية، فهذه كلها تبقى اوهاماً لا معنى لها وغير قابلة للتحقق طالما مجتمعاتنا على هذا المقدار من التشظي والانقسام.
 
 
* كاتب لبناني


الآراء والمقالات المنشورة في الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الشبكة العربية لدراسة الديمقراطية
 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
من "ثورة الياسمين" إلى "الخلافة الإسلامية"... محطّات بارزة من الربيع العربي
لودريان: حرب فرنسا ليست مع الإسلام بل ضد الإرهاب والآيديولوجيات المتطرفة
نظرة سوداوية من صندوق النقد لاقتصادات الشرق الأوسط: الخليج الأكثر ضغوطاً... ولبنان ‏الأعلى خطراً
دراسة للإسكوا: 31 مليارديرًا عربيًا يملكون ما يعادل ثروة النصف الأفقر من سكان المنطقة
الوباء يهدد بحرمان 15 مليون طفل شرق أوسطي من الحصول على لقاحات
مقالات ذات صلة
المشرق العربي المتروك من أوباما إلى بايدن - سام منسى
جبهات إيران الأربع والتفاوض مع الأمريكيين
إردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
إيران أو تحويل القضيّة فخّاً لصاحبها - حازم صاغية
عن تسامح الأوروبيين ودساتيرهم العلمانية الضامنة للحريات - عمرو حمزاوي
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة