الأثنين ٢٩ - ٤ - ٢٠٢٤
 
التاريخ: تشرين الثاني ٢٨, ٢٠١٦
المصدر : جريدة الحياة
مصر
مصر: المجتمع المدني في مهب رياح السلطة والشعب
القاهرة - أمينة خيري 
أفواه مكممة ولافتات غير مُعَرّبة وبيانات مفوّهة وخطوات متسارعة وتهديدات متوقعة وتلويحات مستنتجة وتحركات نيابية أقرب إلى الحكومية وصرخات «وطنية» محذرة من تكرار ما كان في القضية الرقم 250 وصيحات إعلامية متأرجحة بين الدفاع المستميت والاعتراض المستنير وعناوين غربية موجعة وأخرى مصرية مستنكرة وأصوات شعبية تستحلف الجميع أن يترك الشعب في حاله.

حال المجتمع المدني في مصر- أو على الأقل قطاع عريض منه - أنه يضع يداً على قلبه والأخرى يرفع بها لافتات التنديد بالإنكليزية ويتلقى مكالمات التعضيد بلغات عدة وينتظر مصيراً بات مبهماً. التوجه الرسمي الحذر والمحتاط، وفي أقوال أخرى المهدد والمطوق، وفي ثالثة الوائد والمُجهِض، لمنظمات المجتمع المدني والمتمثل في مشروع قانون يأتي متطابقاً وتوجه الغالبية في مجلس النواب الذي صوت مبدئياً بالموافقة عليه قبل أيام.

الأيام القليلة الماضية ماجت بكم هائل من التأييد والتنديد، جنباً إلى جنب مع جهود وصف القانون بأفظع كلمات الشجب أو سبغه بنعوت التدقيق حماية للبلاد من اعتداء المعتدين وتدخل المتدخلين. الواقفون على طرفي نقيض التأييد والتنديد يتفقون في أن التعديلات المقترحة تضع قيوداً غير مسبوقة على عمل الجميعات وتأسيسها. فمن تدخل إدراي في قراراتها في حال «كانت مخالفة للقانون»، إلى إنذارات بسحب هذه القرارات واستبعاد مرشحي الجمعية العمومية وحصر للأنشطة في المجالات التنموية فقط دون غيرها بما يتوافق وخطط الدولة في هذا المجال، إضافة إلى هيمنة جهاز قومي لتنظيم عملها يحوي ممثلين عن وزارات الدفاع والعدل والداخلية والاستخبارات العامة، وما ينص عليه التعديل من قيود أمنية وغرامات مالية وعقوبات سالبة للحرية. لكن يبقى الفيصل بين النقيضين هو اتهام موجه من الناشطين والمتضامنين مع المجتمع المدني بأن القانون خانق وائد مجهض مقيّد للعمل الأهلي، وتبرير مجهز من المتشككين في المجتمع المدني «المموّل» ذي «التوجه الممنهج لتفتيت الدول وزرع الفتن والنبش في مواطن الفرقة وأسباب التشتيت وعوامل التقسيم» ومواطن تحرير الجميع من القيود وذلك بغية «إسقاط الدول وتعرية الأمم والرقص على قبور الكيانات الوطنية».

الهوة السحيقة - والفرقة العميقة- التي جعلت المصريين ينقسمون على طبيعة عمل منظمات المجتمع المدني وأهدافها وغاياتها ومآربها دارت رحاها مع رياح الربيع في العام 2011، وهي الرياح التي بجلت هذه المنظمات وسبحت بعملها وأشادت بآثارها حيث إعلاء قيمة الفرد، وتعظيم حجم الحريات الشخصية ما حاز منها على حساب الأعراف والتقاليد وما حُرم منها، مع الدق على أوتار حاجات القاعدة العريضة من المواطنين والترويج لها باعتبارها «حقوقاً منصوصاً عليها في الدساتير والمواثيق» حيث الحق في مسكن صحي، وعلاج آدمي، ودخل إنساني، ومشاركة سياسية تحمل معارضة كلية مأمونة العواقب.

لكن العواقب لم يكن جميعها محموداً. أحداث شارع محمد محمود المندلعة غير مرة عبر الشهور والسنوات التالية على الثورة سلطت الكثير من الضوء على منظمات المجتمع المدني التي قامت بجهود عدة لتأريخ أحداث الثورة وما تلاها بروايات مختلفة عن تلك التي يروجها الداعمون للنظام الحالي وقاعدة عريضة من المصريين التي وجدت في المجتمع المدني «خائناً عميلاً» أو «منتفعاً متسلقاً» أو «مجرماً عتياً».

القانون الجديد الدائرة رحا معاضدته حيناً ومهاجمته أحياناً يجعل من كل من يفكر في العمل في مجال منظمات المجتمع المدني مجرماً محتملاً إلى حين ثبوت عكس ذلك، وهو ما يفقد فكرة هذا النوع من العمل الغاية منه من الأساس. ولا يمر يوم من دون صدور بيان تنديدي بتحركات الدولة ووزرائها والنواب والإعلام المؤيد للنظام (مع اعتبار الشعب الرافض لعمل المنظمات ضحية غسل الأدمغة وشيطنة المنظمات والجمعيات). فهذا بيان تنديدي صادر عن مجموعة من أبرز المنظمات المهددة يشير إلى أن «التصعيدات الأخيرة وموافقة البرلمان مبدئياً على مشروع قانون الجمعيات الأهلية الجديد، المرفوض من المنظمات الحقوقية، ستحول عمل منظمات المجتمع المدني بمفهومه الواسع (جمعيات خيرية وتنموية وحقوقية) إلى مهمة مستحيلة، على نحو يتنافى مع كل المواثيق الدولية والدستور» رغم أن «المادة 75 من الدستور تكفل حق تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية وممارسة نشاطها بحرية» و «تستمر الدولة في التعامل مع منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان باعتبارهم أعداء».

«أعداء الشعب» و «عملاء الغرب» و «خونة العيش والملح» وغيرها من العبارات الرنانة تصدح في أثير التلفزيون والعنكبوت وجانب من أثير الشارع. ومع كل إجراء بمنع سفر حقوقيين، أو تجميد أصول جميعات، أو التحفظ عن أموال منظمات، تعلو أصوات تذكيرات متعمدة بالقضية «250 أمن دولة» إضافة إلى القضية 173 المعروفة إعلامياً بـ «قضية التمويل الأجنبي» واللتين تتردد أصداؤهما وإن كانت لا تُتداول معلوماتهما المؤكدة على مدار ست سنوات والتي تتعلق بتمويلات أجنبية لمنظمات أهلية بغية إشعال نيران الثورة قيل أن قوائمها شملت ناشطين وحقوقيين وإعلاميين تلقوا تمويلات «مشبوهة».

شبهات التمويل الشرير والعمالة المأجورة والخيانة للوطن - سواء أكانت على أساس أو على سبيل التشويه - كانت كفيلة بإشعال نيران الكراهية والرفض في صدور قطاع عريض من المصريين تجاه منظومة العمل الأهلي برمتها. وبإضافة عوامل الاقتصاد المتأزم والتهديد الأمني المستمر والإقليم المتفجر إرهاباً وتفتيتاً و «دواعش»، اتخذ المصريون قراراً جماعياً بالانفصال التام عن ساحة المجتمع المدني ومنظماته وقضاياه وتمويلاته، وذلك تحت ضغط محدودية الطاقة الاستيعابية لهموم المواطن العادي.

لكن تبقى هموم المجتمع الدولي، من دول ومنظمات ومؤسسات، ذات طاقات استيعابية حدودها السماء. «صفعة مصرية لحقوق الإنسان» و «مطالبات دولية بتعطيل المساعدات» و «ذرائع مشينة لوقف العمل الحقوقي» و «تنكيل سياسي بالعمل الأهلي» و «ابتزاز أمني لوأد الحريات» وعناوين لا حصر لها في الجمعيات والمنظمات الدولية التي تخصص جانباً معتبراً لأوضاع المجتمع المدني في مصر. وفي المقابل «أكشاك تسوّل أجنبي» و «قانون الجميعات حفاظاً على الهوية الوطنية والكرامة المصرية» و «الحكوكيون (صيغة استهزاء) يضربون من جديد» و «السيادة الوطنية فوق دكاكين حقوق الإنسان». ويستمر التجاذب إلى حين إشعار آخر.


 
تعليقات القراء (0)
اضف تعليقك

اطبع الكود:

 لا تستطيع ان تقرأه؟ جرب واحدا آخر
 
أخبار ذات صلة
منظمة حقوقية مصرية تنتقد مشروع قانون لفصل الموظفين
مصر: النيابة العامة تحسم مصير «قضية فيرمونت»
تباينات «الإخوان» تتزايد مع قرب زيارة وفد تركي لمصر
الأمن المصري يرفض «ادعاءات» بشأن الاعتداء على مسجونين
السيسي يوجه بدعم المرأة وتسريع «منع زواج الأطفال»
مقالات ذات صلة
البرلمان المصري يناقش اليوم لائحة «الشيوخ» تمهيداً لإقرارها
العمران وجغرافيا الديني والسياسي - مأمون فندي
دلالات التحاق الضباط السابقين بالتنظيمات الإرهابية المصرية - بشير عبدالفتاح
مئوية ثورة 1919 في مصر.. دروس ممتدة عبر الأجيال - محمد شومان
تحليل: هل تتخلّى تركيا عن "الإخوان المسلمين"؟
حقوق النشر ٢٠٢٤ . جميع الحقوق محفوظة