Date: Apr 4, 2011
Source: جريدة النهار اللبنانية
 
"العلمانية الإيجابية" - الأب طوني دورة

الأب طوني دورة – دمشق

طُرح مصطلح "العلمانيّة الإيجابيّة" بشكلٍ واضح وصريح للمرّة الأولى في وثيقةٍ كنسيّة رسميّة ضمن وثيقة الخطوط العريضة للسينودس من أجل الشرق الأوسط "شركة وشهادة" الذي انعقد في تشرين الاول 2010 في الفاتيكان. ولم يكن طرحًا عارضًا وإنّما طُرح على مستوى الحلّ لأكبر أزمة وجود يُعانيها الحضور المسيحي في الشرق الأوسط.


فما هي العلمانيّة؟ وإن كان قد اصطُلح على تسميتها في الوثيقة الكنسيّة بالـ"إيجابيّة"، فهل هناك من "علمانيّة سلبيّة"؟ وكيف لوثيقةٍ كنسيّة كاثوليكيّة أن تستخدم مُصطلحًا، لَطالما اعتُبر من نقائض الدين عموماً والدين المسيحي في أوروبا خصوصًا؟ هل هو تراجعٌ في الموقف الكنسيّ أم اكتشافٌ جديد لمحمول هذا المصطلح؟ أم تغيُّرٌ وتطوُّرٌ في المفهوم الوجودي لعيش الكنيسة في الشرق والعالم؟ أسئلةٌ سأُحاول مُقاربتها بما هو متوافر من أدوات التعريف والتحديد والتحليل.


إنّ استبياننا لفحوى ومحمول "العلمانيّة" سيُفاجئنا بانتمائه إلى الأرضيّة الراعية لنموّ الإيمان الروحي كاختبارٍ إنسانيّ يستمدُّ أصالته من الحريّة كأفقٍ للوجود الإنسانيّ.
فلطالما جرى الخلط ما بين "العلمانيّة" و"الإلحاديّة". لأنّ "الإلحاد" هو دينٌ بما يملكه من رؤيةٍ تتجاوز الظاهرة التجريبيّة، لتذهب إلى ما وراءها متناولةً طبيعة الموجودات الجوهريّة وماهيّتها ومعناها النهائي والأخير. وبالتالي، فإنّ الأنظمة السياسيّة التي تتبنّى الإلحاديّة تحت عنوان العلمانيّة ليست إلاّ أنظمة دينيّة - لا إلهيّة- رافضة لهذا الدين أو ذاك، لا رافضةً للدين بما هو عليه من رؤية وموقف وممارسة.


أمّا العلمنة الحقيقيّة فهي موقف تتجلّى فيه حياديّة الدولة تجاه الأديان، أي امتناع الدولة، كدولة (لا كأفراد في سُدّة الحكم بالدولة)، عن التزام وإلزام الدولة بأيّ مُعتقد أو دين أو فلسفة، تاركةً هذه المعتقدات لضمير كلّ مواطن، بما هو إنسان، لحريّة ضميره وقناعاته الشخصيّة. لذا فإنّها تمتنع عن فرض أيّ موقف يأخذ الصبغة الدينيّة باسم مؤسسات الدولة أو منابرها أو إعلامها وإعلانها، لا نشرًا ولا مُكافحةً أو إقصاءً.


وهذا لا يعني بالضرورة إقصاء الدين عن المجال العام أو عن حياة الأمّة وتوجّهاتها ومؤسّساتها، خصوصا إذا كانت الدولة تُعبّر عن شعبٍ يُحيي إرثه الدينيّ بفاعلية في حياته الأخلاقيّة. من هنا، على الدولة أن تستلهم إرث هذا الشعب بما هو موروث حضاري إنسانيّ ثقافيّ يُؤثّر إيجابًا على روح التشريع ومناهج التربية، خصوصًا في البُعد الأخلاقي للمجالات الحيويّة للحياة كالعمل والأسرة، وتدعيم ثقافة التعدد والاختلاف. وعلى الدولة ان تسمح عبر مؤسساتها للعائلات الروحيّة المتعدّدة والمتنوّعة في الوطن، بالتثقيف والتوصيف والتعبير والتعريف عن تراثها الروحي كاختبارٍ إنسانيّ أصيل دون الدعوة اليه أو التوجيه نحوه أو الترويج له. ويتم ذلك مثلا من طريق إدخال مادّة علم الأديان المُقارن في البرامج التربوية، وهو علمٌ يبحثُ في منشأ الاديان وفلسفتها وطقوسها وأخلاقيّاتها وممارساتها، واصفًا بحياديةِ ثقافة استعراضيّة دون التفضيل أو التوجيه أو الدعوة إليها، ولا سيما بما قدمته هذه الروحانيّات المختلفة من قيمِ عدالةٍ وجمالٍ ورحمةٍ وإنسانيّة...
وبناءً على التعريف السابق نستطيعُ الاستنتاج:


انّ العلمنة تُشكّل توافقًا مع الإيمان بما يحتاجه من مناخٍ حُرٍّ أكثر من النظام الطائفي أو الدولة الطائفيّة.


1- لأنّ النظام الطائفي (أو الدولة الدينيّة)، لا يُقيم وزنًا للحريّة الشخصيّة، تلك الحريّة التي لا إيمانَ حقيقيّا مُحترِما للضمير البشريّ بدونها. فالإنسان محسوب على الطائفة التي يُولد فيها، تُفرَضُ عليه مراسمها وأحكامها (التربية، الزواج، الطلاق، الميراث... والجنازة) من دون أن يُحسب حساب لمواقفه وقناعاته الشخصيّة، ممّا يُفرز نوعًا من التديّن السطحي ويُغذي الرياء الاجتماعي والانتهازيّة في التديّن الظاهري لبلوغ المآرب، وخصوصًا تجاه السلطة. أما العلمنة فتُنشئ مناخا من الحريّة يستقيمُ فيه الإيمان الذي يشترط الحياديّة تجاه الحقائق الوجدانيّة المُختَبَرة والمُكتشفة، وبالتالي الثبات في القناعة والإخلاص.


2- العلمنة تكفل للدين نقاء التجربة الروحيّة بنأيها عن مطامع ومطامح الربح والجوع إلى السلطة ليبقى في مناخ المجانيّة كمعيارٍ لسلامة عيشه. فيبقى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فلا نزجُّ اللهَ بما لقيصر ولا نُعطي قيصرَ سلطةَ الله، فلا هالة إلهيّة للسلطة ولا حُكم مُتسلّطا باسم الله.


3- العلمنة تسمح بصهر المواطنين في مجتمع واحد متساوين كلّهم بالحقوق والواجبات والكرامة، على مسافة واحدة من العقد الاجتماعي المُكوّن لصيغة الوطن والأمّة، فيقفون سدًّا منيعًا بوجه الدسائس والمؤامرات التي تُحاك ضدّ الهويّة الوطنيّة كما يجري في لبنان والعراق مثلا... وكلّ بلد يُعاني من الطائفيّة سواءً بالنفوس أو بالنصوص. وتتيح للمواطنين ان يعملوا بيد واحدة على النموّ والازدهار
ومواجهة الأزمات والمشاكل بتآزر الجهود المُخلصة وتكامل المواهب.


هذا في حين أنّ الدولة الدينيّة تجعل من الأقليّات العدديّة كيانات هامشيّة في وطنها الذي قد يكون قد تسمّى باسمها، فيَضعُفُ الولاء للوطن وتعمل هذه الكيانات بروحٍ فئويّةٍ تخلق التفاوت والتباين والتناقض والتصارع، ويُصبح الكلّ للجزء بدلا من الجزء للكلّ. لذا فإنّ العلمنة، بما هي كافلة للحريّة والعدالة، تُضحي ضامنة للإيمان المستقيم والضمائر الحرّة والإرادات الخيّرة وحاجة إنسانيّة ترتقي بارتقائها وتتطوّر بحراكها وفعاليتها.
تأخرت كنيستي، لكنها بشجاعة تأمّلت وتخطّت ما كان يعتبر محرما، وتبنت "العلمانية الايجابية". فما حال الأنظمة السياسية هلاّ تجرأت وأقدمت؟؟