علينا أن نتفق أولاً: في أي سن، يُفترض أنه «سن الرشد»، يجوز للشباب أن يشاركوا في الشأن الوطني؟ وفي الشأن السياسي؟ لقد رأيت أطفالاً كثيرين وضعهم آباؤهم أو إخوانهم في مقدم صفوف التظاهر والاحتجاج وهم يفعلون ذلك امتثالاً لأوامر الكبار، لا أكثر ولا أقل! بحكم اهتمامي بشؤون التربية، واشتغالي بالتدريس، الثانوي ثم الجامعي، تابعت النظريات التربوية في العالم. فوجدت أن علماء نفس طالبوا في البداية بمنح الصغار «الحرية التامـة» لفعل ما يشاؤون. وكان الباحثون النفسيون في بلادنا يتأثرون بتلك النظريات ويتابعونها ويعملون بها.
وقد امتلأت المجتمعات الغربية التي برز فيها أولئك «الأساتذة» بصغار المجرمين الذين كانوا يقتلون آباءهم وأمهاتهم، أو يطلقون النار عشوائياً على من يصادفون في الشارع، أو في أي مكان، وسط انهيار أُسري رهيب، حيث كان الأبناء يتخلون عن آبائهم وأمهاتهم ويرمونهم في ملاجئ العجزة، وإذا جاؤوا لزيارتهم طالبوهم بسعر البنزين! وقبل سنوات، وبعد هذه التجربة المرة، ومن واقع النقد الذاتي والاعتراف بالخطأ، الذي لا يأنف منه الغربيون، بعد تقدمهم، انبرىالعلماء أنفسهم مطالبين بضبط الصغار في التربية واعترفوا بخطئهم المميت في الدعوة الأولى التي نادوا فيها بإعطاء الحرية، كل الحرية، للصغار وتركهم يفعلون ما يريدون!
وفي مجتمعاتنا العربية، ولأن الآباء والأمهات قد تعرضوا للكبت والتضييق تقليدياً، فهم لا يريدون أن يعرّضوا صغارهم لكبت مماثل، فنراهم يطلقون لهم العنان في نيل مطالبهم، وتحقيق رغباتهم، وفعل ما يشاؤون ولا يكلفون أنفسهم، أولئك الآباء والأمهات والمعلمون (المعلمون أيضاً!) في توقيفهم عند حدود مقبولة ومعقولة.
والشباب، أو بالأحرى صغار السن، هم الغالبية العظمى في المجتمعات العربية، وعلينا التفكير في مستقبلهم ومستقبل مجتمعاتنا. ثم إن العالم قد «تقدّم»، ولا أدري أي نوع من «التقدم»! ... فانتشرت الإنترنت والـ «فايس بوك»، الذي يتواصل من خلاله أكثر الشباب، ويقال إن أكثر «الثورات» في العالم قد حدثت بسبب ذلك. ولم نشهد، بعدما حدث من تغيير في قمة السلطة بمجتمعات عربية، أن بدائل ديموقراطية رصينة قد أطلت علينا، وأكثر «المحتجين الشباب» يطالبون بمحاورتهم في الشارع، وتنفيذ مطالبهم معقولة... أو غير معقولة!
في مرحلة سابقة عندما تغلبت «ثقافة الصورة» على «ثقافة الكلمة» – بحكم شعبية التلفزيون و «التقدم» الذي جاء به، نبهّت إلى أمرين خطيرين: الأول أن الصغار، بحكم إدمان التلفزيون، قد تعرضوا لاختلال عقلي تعليمي فما عادوا يجدون وقتاً لمراجعة دروسهم، والأدهى من ذلك أنهم تحولوا إلى «كائنات صماء» لا تحسن الحديث والتخاطب مع الآخرين. وظهر علماء نفس وتربية يطالبون بالحد من ساعات المشاهدة التلفزيونية – التي امتدت 24 ساعة على مدار الليل والنهار – لإشغال الناس عن التفكير في أي أمر جدي...!
فعمد بعض الأسر في المجتمعات الغربية إلى «ضبط» ساعات المشاهدة التلفزيونية لدى الأطفال كي يؤدوا فروضهم المنزلية على الأقل... وشاع في المجتمعات «الجادة» أن تشغيل التلفزيون أثناء زيارة ضيوفهم يعتبر «إهانة وتجاهلاً لهم»، فهم ما قاموا بزيارتهم لمشاهدة التلفاز الذي يمكن أن يشاهدوه وهم في منازلهم! وصرنا نقرأ التقرير تلو التقرير، من علماء التربية عن «الأضرار» التي تلحق بتكوين الأطفال نتيجة إدمانهم مشاهدة التلفزيون، لكننا نمر على تلك التقارير مرور الكرام، فالفضائيات تنتشر، ولا راد لهذا «البلاء»!
أما الأمر الثاني، الأخطر نتيجة غلبة «ثقافة الصورة» على «ثقافة الكلمة» – وذلك ما نشرت أبحاثاً عنه – فهو أنه لا يمكن التعبير بالصورة عن أرقى ما وصل إليه العقل البشري في نطاق «التجريد» الديني والرياضي والفلسفي. ففي الدين، وفي الرياضيات، وفي الفلسفة، لا بد من التعبير عن الفكرة المجردة بالكلمة، ومن المحال التعبير عن ذلك بالصورة، لذلك فنحن نشاهد في عصرنا «المتقدم» تدهوراً لهذه المجالات العليا التي توصل إليها العقل البشري بعد «تطور» طويل.
فعندما يصف القرآن الكريم الخالق الأعظم، بأنه «ليس كمثله شيء»... أليس ذلك تحذيراً من محاولة تصويره بأية صورة؟ وأرى أن كراهية التصوير في الإسلام تعود إلى هذا الاعتبار، ولا تتعلق بكراهية التصوير لجواز السفر أو غيره! إن «التقدم» مستمر... ولا يمكن إرجاع عجلته إلى الـوراء. وفي زماننا نرى أن «الإنترنت» هي وسيلة الاتصال والتواصل، بل أسلوب العمل الجديد. وباختصار، فيما يتعلق بالشباب، أرى أنه يتوجب علينا وضع فلسفة للتربية، لا تستند إلى اعتبارات الكبت التقليدي، وفي الوقت ذاته، لا تطلق الحرية كل الحرية، للغرائز البشرية التي تضر بأصحابها! ليس سهلاً إقامة هذا «التوازن» ولكن لا بد مما ليس منه بد، إنقاذاً لأجيالنا الصاعدة التي لا تفتقد نزعة الخير إذا أحسنّا توجيهها، والتي أثبتت في حالات عدة أنها قابلة لذلك ... * كاتب من البحرين
|