Date: Apr 22, 2011
Source: جريدة الحياة
 
تقدير دولي مختلف للرأي العام العربي اليوم - عمار علي حسن

قبل أن تبدأ الثورات والانتفاضات في دول عربية عدة، كانت الأحداث الجسام التي مرت بها منطقتنا على مدار السنوات الأخيرة قد عودتنا أن الرأي العام العربي يقتصر دوره على أن يكون مجرد «رد فعل» على وقوع تلك الأحداث، وليس جزءاً من صناعتها، أو رقماً في المحاولات الرامية إلى الحيلولة دون قيامها، إذا كان فيها ما يضر بمصلحة أي طرف عربي، أو بمصالح العرب أجمعين.

 
فقبل الاعتداءات الإسرائيلية والأميركية المتكررة على الدول العربية، كان الشارع العربي لا يبرح حالته المعهودة، وهي انتظار مروق أول صاروخ وانطلاق أول طائرة إسرائيلية أو أميركية أو بريطانية في اتجاه الأهداف المحددة للضرب، لتندلع التظاهرات وتنظم المسيرات، التي تطلق شعارات صارخة من قبيل «الموت
لأميركا»، ثم يكيل بعض منظمي هذه الأشكال الاحتجاجية الاتهامات للأنظمة العربية بالتقاعس عن نصرة «إخوة الدم والتراب»، ويدعون إلى تنظيم قوافل طبية لتضميد جراح المصابين المثخنة، أو جمع التبرعات لشراء أغذية تسد بعض رمق الجوعى تحت القصف.


وتدريجاً، وأمام مضي العمليات العسكرية قدماً وظهور بوادر تعب على الحناجر التي صرخت كثيراً في التظاهرات وتسرب اليأس إلى نفوس الرموز السياسية المعارضة أو المتعاطفة مع الشعب العربي هذا أو ذاك، يعود الرأي العام العربي إلى مقاعد المتفرجين، ويتابع سير المعارك وكأنها مباراة لكرة القدم، أو حرب أهلية في بوروندي أو سريلانكا، خصوصاً بعد أن تبدأ «الآلة الإعلامية» الرسمية في تهدئة النفوس، وتحييد اللهجة في نشرات الأخبار والتعليقات، وتهيئة الجميع للأمر الواقع.


وهنا كانت تظهر الآفة التي تصيب الرأي العام العربي في مقتل، وهي عدم قدرته على تغيير أوضاع داخلية مستبدة وقاهرة، وعجزه عن الانتصار لنفسه في قضاياه المحلية الملحّة، أو إبرامه عقداً اجتماعياً مع السلطة يجبر الأخيرة على احترامه، والتعامل معه على أنه رقيب وحسيب، وأنه بداية السياسة ومنتهاها، وأن من يجلسون في المقاعد الأمامية للإدارة ليسوا سوى موظفين يلبون رغبات الناس، الذين اختاروهم، أو على الأقل رضوا بوجودهم في مناصبهم.


ورأي عام في هذا الشكل كان لا يمكنه أبداً أن يمتلك حساسية التحرك السريع حيال التهديدات الخارجية، أو يجعل صنّاع القرار في أميركا وبريطانيا يضعونه في اعتبارهم، وهم يدبرون للحرب ضد العراق أو غيره، لأنه فشل في أن يجعل صنّاع القرار في البلدان العربية نفسها يضعونه في حسبانهم وهم يرسمون سياساتهم للتعامل مع أي أزمة يمر بها العالم العربي.
ومن ثم ظل الرأي العام العربي عاجزاً عن أن يشكل رقماً في معادلات السياسة الخارجية، وهي مسألة فطن لها العقلاء من المثقفين العرب حين أكدوا أن غياب الديموقراطية، الذي يعني هنا تجاهل السلطة لمواقف الجماهير، هو آفة العرب الأولى، ونقطة ضعفهم الرئيسة في الصراع ضد إسرائيل.


وهذا كان يستوجب في مجمله ضرورة أن ينتصر الرأي العام العربي، في كل دولة على حدة، لقضاياه الداخلية، قبل أن يطل برأسه إلى خارج حدود الدولة محاولاً أن يدفع عن العرب ضرراً أو يجلب لهم منفعة. لكن القمع او الإكراه الذي تمارسه السلطات العربية كان يحول دون تحقيق هذه الغاية، وكان يؤدي إلى تكريس استكانة المواطنين العرب، وانسحابهم في أنفسهم، خانعين خاضعين، ومثل هذا الوضع لم يكن من الممكن أن يجلب لهم احترام العالم وتقديره، مهما بلغت بهم الذلة والمسكنة والاستعطاف.


ولا يعني هذا، في أي حال من الأحوال أن يرجئ الرأي العام العربي، في أي من الدول التي لم تقطع شوطاً بالغاً على طريق التغيير الشامل، صنع مواقف من القضايا الخارجية حتى يحسم
مشاكله الداخلية، فهذا أمر غير واقعي، ولكن المطلوب هو ألا يفرغ الشارع العربي كل مكبوت طاقته حيال ما يلمّ بالعرب من مآسٍ خارجية، ثم ينتظر خالي الوفاض، حتى تسوق الأحداث كارثة جديدة كي يستيقظ هذا الشارع من غفوته، بل يجب أن يظل طوال الوقت يقظاً إزاء قضايا الديموقراطية والتنمية، فإذا حلّت
مشكلة خارجية تفاعل معها على الفور، من دون أن ينسى الارتباط العضوي بين الداخل والخارج، ومن دون أن يسمح لأحد بأن يمارس عليه وعياً زائفاً بأن الأولى هو مواجهة عدو يتربص بنا وأن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».


والغريب في مثل هذه الحال أن السلطات الحاكمة في الكثير من الدول العربية يروق لها هذا الأمر، فتترك الجماهير تصيح وتصرخ احتجاجاً على نتانياهو وأوباما حتى تفرغ طاقتها الغضبية تماماً، فإذا تبلور لديها وعي أثناء الحشد والصراخ بأن ما هي فيه هو نتيجة طبيعية لوجود أنظمة غير ديموقراطية واستشراء الفساد وإهدار إمكانات الدول، تدخلت على الفور اليد الباطشة، لتفرق التظاهرات وتفض الاحتجاجات وتسوق رموز الرأي العام إلى السجون، ولا تأخذها بهم رأفة أبداً.


في كانون الأول (ديسمبر) الماضي بدأت هذه المعادلة تتغير حين اندلعت ثورة تونس وأطاحت نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وتلتها الثورة المصرية التي حولت حسني مبارك من القصر إلى السجن، ثم الثورات الليبية واليمنية والسورية، والحبل على الجرار. ومع هذا التغير أعتقد أن الرأي العام العربي بات يمتلك قراره، ويسترد ثقته في نفسه، وهو يسير بخطى واثقة نحو بناء الديموقراطية والعدل الاجتماعي. وحين يكتمل التغيير، وتتمكن الشعوب من رقبة القرار، سيجد العالم نفسه مجبراً على الإنصات لصوت الجماهير العربية الهادرة، واحترام ما تقول، والنزول على ما ترغب، وهو من ثمار التحول الكبير الذي تشهده البلدان العربية. ومن أراد أن يتأكد مما أقول فليستمع إلى أغنية الطلاب الأميركيين في القاهرة وهم يغنون باللغة العربية على مسرح الجامعة الأميركية أغنية: «كل شارع في بلادي بالحرية بينادي».
* كاتب مصري